ثامر الصفار
لنحسبها سوية: إذا قرأ شخص ما 50 صفحة في الساعة، وبمعدل 8 ساعات يوميا فسوف يستغرق الأمر ما يقرب من ثلاثة أشهر ليتصفحها بالكامل. وأنا افترض هنا أنه متفرغ للقراءة وليس لديه أي عمل آخر، ولكن، لو كان يقرأ في وقت فراغه فقط، لأستغرق الأمر سنوات عدة. وحتى لو نجح في تكريس نفسه لمجرد معرفة تفسيرات ماركس وانجلز للعالم، فلن يتبقى له سوى القليل من الوقت لتغيير أي شيء، ناهيك من تغيير العالم بأسره. المسألة صعبة كما ترون، لا بل إنها مستحيلة.
الأسوأ من ذلك، ثمة العديد من كتابات ماركس (خاصةً ماركس – على الأقل ان أنجلز يكتب عموما بأسلوب أكثر مباشرة) تكون فيها قراءة 50 صفحة في الساعة، وفهم أي شيء على الإطلاق أمرا غير وارد. على سبيل المثال، في نهاية الفصل الأول من كتابهما المشترك العائلة المقدسة أو نقد النقد النقدي، وهو مؤلف يتضمن جدال هجائي هجومي ضد صديق ماركس السابق، الفيلسوف الديني الألماني برونو باور، كتب الاثنان ما يلي:
من ترجمة الدكتور رزق الله هيلان، ومراجعة أنطون مقدسي
«ومن البديهي – والتاريخ الذي يثبت كل ما هو بديهي، يثبت كذلك ما يلي: أن النقد لا يتحول الى جمهور لكي يبقى جمهورا، بل لكي يخلص الجمهور من طبيعته الكثيفة كجمهور، وبالتالي من اجل إلغاء اللغة الشعبية لدى الجمهور بدمجها في لغة النقد النقدي النقدية».
و الفقرة نفسها من ترجمة حنا عبود، ومراجعة الدكتور فؤاد أيوب
«من الواضح وضوحا ذاتيا – والتاريخ الذي يثبت كل شيء واضح ذاتيا، يثبت هذا ايضا – ان النقد لم يصبح جمهورا ليبقى جمهورا، بل ليعتق الجمهور من كثافته الضخمة، أي ليرتفع بالطريقة الشعبية في التكلم الى اللغة النقدية للنقد النقدي»
«بديهي»؟ «واضح»؟ كيف؟ ثلاثة أسئلة ستقفز الى ذهننا، ثم سنقول لأنفسنا كما تقول الفنانة ألاء حسين (…حظي).
لكن الحال ليست هكذا دائما. نعم، كتابات ماركس و انجلز تتسم بسعتها وبتعقيد وصعوبة مواضيعها، لكنها غير محصورة لقلة قليلة من الخبراء والمختصين ممن يمتلكون الفرصة لفهمها. فالكثير من أعمالهما كانت، ولاتزال، تمثل تحديا، لكنها واضحة بما يكفي ليفهمها أي شخص تقريبا (أي شخص يرفض الرأسمالية، أي شخص يرغب ببناء جنته على الأرض)، وهي قادرة على ان تجعلنا ننفجر ضاحكين أو باكين. حسبنا قراءة كلام ماركس ضد لويس بونابرت ودفاعه عن الكمونيين في الحرب الأهلية في فرنسا.
إذن، لنشارك لينين سؤاله «ما العمل؟»
لحسن الحظ، فإن جبل ماركس ليس مخيفا كما يبدو للوهلة الأولى.
يمكننا ان نطرح من الأعمال الكاملة MECW التي ذكرناها آنفا (الحقيقة أنها غير كاملة لأنها تضم فقط الأعمال التي نشراها في حياتهما)، اثنا عشر مجلداً، وكذلك أجزاء كبيرة من مجلدات أخرى، تضم الرسائل بينهما، أو مع طرف ثالث، رغم ان هذه الرسائل تحتوي على رؤى رائعة وتستحق القراءة، ولكن يجب القول أيضا، إن ماركس وإنجلز كانا يكاتبان بعضهما البعض كل يوم تقريبا، وأحيانا يرسلان رسالتين يوميا وبالتالي، فإن آلاف صفحات المراسلات بينهما، كانت غالبا أشبه برسائل الفيسبوك التي تصلنا في وقت متأخر من الليل. أنتم أحرار طبعا في قراءتها جميعا، لكنني أعتقد أنه من الآمن تخطي الجزء الأكبر حاليا على الأقل. علاوة على ذلك، هناك مئات الصفحات من قصائد الحب ومسودات المسرحيات الرومانسية وحتى رواية كتبها ماركس عندما كان مراهقا، يمكننا تركها جانبا.
ثم هناك حقيقة ان ماركس كان – تذكروا أن هذا كان قبل أيام الكتابة والتنقيح السهل على الكمبيوتر – يقوم بنسخ صفحات كاملة من فلاسفة واقتصاديين آخرين، ثم كتابة تعليقات طويلة على هذه المقاطع، التي كان يستخدمها لإعداد المقالات والكتب في صيغتها النهائية. وكان يحتفظ بدفاتر خاصة بذلك. هذه كلها تضم أدلة مهمة تجيب على سؤال: كيف طور ماركس أفكاره؟ لكن الكثير منها لم تكن بهدف النشر مطلقًا، إنها لتوضيح الأمور لنفسه هو. خذوا مثلا كتاب الغروندريسة، المتكون من سبعة دفاتر تغطي حوالي 800 صفحة، استخدمها ماركس من أجل إعداد مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي. ان قراءة الغروندريسة تقدم رؤى إضافية لكل من يرغب في فهم تطور فكره الذي وضعه في تحفته رأس المال، والأخير أكثر من كافٍ على الأقل بالنسبة للشخص غير المتخصص.
سأحاول تقديم نوع من الدليل، أو الخيط المرشد، في مقالات قصيرة، لقراءة أعمال هذين المفكّرين الثوريين العظيمين. ولن يكون هدفي هو التعليق على كل كلمة، بل سأسعى الى تقديم إطار، تاريخي – نظري، للتغلب على بعض العقبات التي تقف في طريق فهم أفضل، وتقدير أعمق، لأهم أعمال ماركس وإنجلز.
في حال الرغبة في معرفة المزيد عن حياة ماركس وإنجلز، الشخصية والسياسية على حد سواء، والاطلاع على تاريخ أهم الأحداث العالمية والشخصية خلال فترة كتابتهما لأعمالهما، فإن أفضل مكان للبدء هو كتاب كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث لميخائيل هاينريخ، دار المدى.
سنبدأ أولا بالحديث عن جورج فريدريك هيغل، وأعتقد أن بالإمكان اكتساب فكرة جيدة عن الديالكتيك بمجرد قراءة الفقرات الأربع الأولى من مقدمة كتابه فينومينولوجيا الروح أو ظاهريات الروح. تذكروا: لا ألم.. لا مغنم.
ان ماركس وإنجلز هما نتاج عصرهما، وبالتالي، ربما هناك من يقول ان بعض أفكارهما قد شاخت، لكن لنتذكر دائما، انهما عاشا وناضلا خلال فترة المراهقة لعصر لا يزال يشكّل حياتنا اليوم – عصر الرأسمالية. وهكذا، فإن إدراكنا لكيفية فهمهما لما كانا يواجهان، والنظريات التي وضعاها لوصف الرأسمالية ونقدها، والاستراتيجيات التي توصلا إليها للخلاص منها، كل ذلك، لا يزال يحتفظ بحيوية وأهمية مدهشة في عصرنا.
يكفي مثال واحد. إذا كنا نرغب في اكتساب رؤية أعمق للثورات والانتفاضات التي جرت وما زالت تجري في تونس ومصر والعراق، لنقرأ كتاب ماركس الثامن عشر من برومير لويس بونابرت. بالطبع، ثمة أكثر من قرن ونصف، والبحر الأبيض المتوسط بمياهه الزرقاء، يفصل باريس العام 1848 عن تونس والقاهرة العام 2011 وعن بغداد منذ العام 2015، لكن ماركس فهم، ما لم يفهمه آخرون، ما الذي يوحد مثل هذه المواقف عبر المكان والزمان؟.
لهذا السبب لا يزال بإمكاننا تعلم الكثير منه، لهذا تستحق قراءة ماركس وإنجلز، الجهد المبذول. فلنقرأهما معا.
(2)
عملية المعرفة والديالكتيك
في 16 كانون الثاني العام 1858، كتب ماركس الى أنجلز: «إذا كان ينبغي أن أخصص وقتا لمثل هذا العمل مرة أخرى، فإنني أود أن أوضح للإنسان المثقف العادي، في ورقتين أو ثلاث، ما هو العقلاني في المنهج الذي اكتشفه هيغل، لكنه يتسربل بلباس صوفي في الوقت نفسه».
لم يتسن لماركس القيام بذلك، ربما بسبب صعوبة تكثيف هيغل في بضع صفحات حتى بالنسبة لعقل يمتاز بعبقرية غير عادية كما هو الحال مع ماركس. وأظن ان هيغل نفسه يرفض أساسا فكرة إمكانية أو وجوب محاكمته فكريا.
سأحاول هنا معاينة عدد من الأفكار الهامة التي قال بها هيغل، وشرح سبب أهميتها العميقة لماركس عندما كان طالبا.
عالم هيغل
ولد هيغل العام 1770. أي انه كان يبلغ من العمر 19 عاما عندما اندلعت الثورة الفرنسية العام 1789. في حينها وقف الشباب الديمقراطي الأوروبي في حالة من الرهبة من قوة الثورة الفرنسية وكذلك الثورة الأمريكية الكبرى التي امتدت من العام 1775 الى العام 1783 لإزاحة وكنس الأنظمة الملكية.
ها هو الموسيقار لودفيغ فان بيتهوفن يلحن سيمفونيته التاسعة (نشيد الفرح) مستلهما قصيدة للشاعر الألماني فريدريك شيلر تحمل العنوان نفسه، حيث تغني الجوقة في المقطع الرابع منها: «أيتها الملايين! كونوا متعانقين! … خذوا هذه القبلة الى الدنيا كلها!». وها هو الشاعر الإنجليزي ويليام وردزورث يقتفي الأثر نفسه ليكتب أبياته الشهيرة عن تلك الأيام «هي السعادة ان تكون حيا ذاك الفجر، ولكن أن تكون شابا فهو النعيم!» وكلاهما (بيتهوفن ووردزورث) ولدا في العام 1770 كما هيغل.
لكن الثورة لم تأت إلى ألمانيا، وقضى هيغل السنوات الخمس عشرة التالية، مواصلا مسعاه لإتقان أفكار عظماء الفلسفة الأوروبية، ومجاهدا في كتابة ما من شأنه أن يلفت الأنظار إليه، كي يحصل على منصب أكاديمي.
حقق غايته أخيرا في مدينة يينا العام 1807 عندما نشر كتابه الرائد فينومينولوجيا الروح أو ظاهريات الروح، متوجا به فترة عمله الجامعي في هذه المدينة، وكان قد أرسل النسخة المعدة للنشر في الليلة السابقة لمعركة يينا في 13 تشرين الأول 1806، ومدفعية نابليون بونابارت تدك المدينة الصغيرة؛ فتسقط مترنحة تحت أقدام القوات الفرنسية معلنة سقوط الإمبراطورية الألمانية.
بدا لهيغل أن الثورة الفرنسية كانت تغسل وساخة الأمراء الألمان. وكان هذا ما حصل، حيث قامت الحكومة المدعومة فرنسيا بسن إصلاحات مهمة مناهضة للإقطاع على مدى عقد من السنين أو نحو ذلك.
كان هيغل جاهزا ليغتنم فرصة الإصلاحات، فقد احتُفي بكتابه الجديد باعتباره يشكل بداية التغيير الفلسفي والفكري الجذري وصياغة أسلوب جديد لفهم التاريخ. وأدت شهرة الكتاب الى قيام الإصلاحيين البروسيين في مجال التربية والتعليم بمساعدته على اعتلاء مواقعا أكاديمية انتهت باحتلاله كرسي الفلسفة في جامعة برلين حيث درّس فيها حتى وفاته العام 1831بمرض الكوليرا (للمزيد عن حياة هيغل انظر كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث، دار المدى، 2020).
أفكار هيغل العظيمة
لابد من الاعتراف ان قراءة هيغل صعبة على العموم، وفي كثير من الأحيان صعبة جدا، بل إنها في بعض الأحيان شبه مستحيلة. خاصة إذا لم نكن معتادين على الفلسفة الألمانية في أواخر القرن الثامن عشر، مثل الملايين الذين يعيشون اليوم على هذا الكوكب.
لكننا لا نحتاج إلى قراءة الكثير عن هيغل كي نفهم ماركس؛ بالطبع، إن القيام بذلك سيمنحنا، على الأقل، نظرة ثاقبة حول كيفية تطوير ماركس لنظرياته الثورية الخاصة، وسيوفر لنا تقديرا أكثر ثراءً لآرائه حول التغيير الاجتماعي.
في الفقرات الأربع الأولى من الاستهلال لكتاب فينومينولوجيا الروح نجد أن هيغل لا يمتنع عن الاعتذار عن صعوبة كتابه، بل يبرره صراحةً، قائلاً إنه «بسبب طبيعة الفلسفة، فانه حتى من غير اللائق، وسيكون نوعا من التضليل» إعطاء ملخص بسيط لفلسفته.
يجادل هيغل بأن المعرفة الحقيقية لا يمكن أن تنتقل، ببساطة، من المعلم إلى الطالب كمنتج نهائي، أو كهدية معلبة. التعلم الحقيقي هو عملية تتطلب جهدا مستداما، يجب أن يتجاوز «مجرد بدايات الفهم». ان تبسيط الأفكار إلى حد تحويلها الى مجرد شعارات يجري تكرارها لن «يخلق انطباعا حول جدية العمل وجدية الالتزام الجاد بالقضية المطروحة. فالقضية الحقيقية لا تنتهي إذا ما قلنا إنها الهدف، ولا النتيجة هي الكل الفعلي، بالأحرى، إنها النتيجة مع العملية التي ولّدت هذه النتيجة».
إذا فكرنا في الأمر بعمق سنجده مثيرا للاهتمام حقا. يجادل هيغل بأن الرحلة لا تقل أهمية عن الوجهة – إنها جزء ضروري من الكل. في الواقع، إذا ركزّنا فقط على الوجهة التي نبتغيها، فلن نتعلم أبدا كيفية الوصول إليها. ان هذه النظرة إلى المعرفة، كعملية، هي واحدة من أهم الأشياء التي أخذها ماركس من هيغل.
في الفقرات نفسها، قدم هيغل أحد أفضل الأمثلة على ما يمكن أن يطلق عليه الديالكتيك. بادئا ذي بدء، الكلمة نفسها في الأصل (من اليونانية) تعني ببساطة حوارا بين شخصين يحاولان الوصول إلى فهم مشترك للحقيقة. لذلك في كل مرة نتحدث فيها مع صديق عما نأكله على العشاء، فإننا نمارس الديالكتيك. كباب، لا. دجاج، لا. فلافل نعم!
بالطبع، يعطي هيغل معنى أوسع للمصطلح كما يوضح مع هذا المثال من الطبيعة:
«يختفي البرعم مع تفتح الزهرة، ويمكن للمرء أن يقول إن الزهرة قد نفت البرعم؛ وبالمثل، عندما تظهر الثمرة، تظهر الزهرة بدورها كمظهر خاطئ للنبات، وبدلها ستظهر الثمرة الآن كحقيقة للنبات. ان هذه الأشكال لا تتمايز فقط عن بعضها البعض، بل تحل أيضا محل بعضها البعض، تتبادل المواقع، باعتبارها أشكالا غير متوافقة، ولكن، في الوقت نفسه، فأن طبيعتهم السلسة تجعل منهم لحظات من وحدة عضوية لا يتعارضون فيها فحسب، بل يكون فيها كل منهم ضروريا مثل الآخر؛ وهذه الضرورة المتبادلة وحدها هي التي تشكل حياة الكل».
تشكل الأفكار الأساسية الواردة هنا اللبنات الأساسية لمفهوم هيغل المحدد عن الديالكتيك: التغيير من خلال الصراع (الثمرة تنفي الزهرة التي كانت قد نفت البرعم، وهو ما نسميه بالفلسفة قانون نفي النفي)؛ ثم قانون وحدة وصراع الأضداد (البرعم والزهرة والثمرة أشكال تختلف عن بعضها البعض لكنها تحل محل بعضها البعض)؛ تغير الكمية إلى نوعية (النمو المتزايد داخل البرعم «يتفتح» فجأة إلى شيء جديد تماما)؛ وأهمية فهم كامل العملية وليس النظر اليها باعتبارها مجرد مراحل جزئية («لحظات من الوحدة العضوية»).
ثم يطبق هيغل هذه الرؤية على مدى 500 صفحة تقريبا لإظهار كيف أن الفكر والثقافة السابقين، اللذين يغطيان آلاف السنين، كانا في الحقيقة عملية أصبحت من خلالها «الفاكهة» (وهو ما أسماه «المعرفة المطلقة»، أو الرب) مدركا لذاته … وكيف كان هيغل، الوحيد، الذي تمتع بالذكاء لإدراك ذلك. وهذا هو السبب في أن ماركس قال إن نسخة هيغل للديالكتيك «يلفها التصوف».