فنون

(قصة حب مفخخة) والسردية المزدوجة الخارجة عن الذات

علوان السلمان

   

(تمشي بهدوء على انغام صوت قلبها الرقيق وهو يعزف لها مقطوعته اليومية لحلم طال انتظاره..مع انتظارها لبيع اطواق الياسمين على اصحاب السيارات المتوقفة باشارات من منتسبي القوى الامنية وهم يفتشون السيارات بدقة قد تستمر لنهار كامل بعد سلسلة انفجارات تكررت في هذا الشارع المصر على ان يكون نبض بغداد رغم ازدحام الانفجارات على جوانبه..)

(تأتي القوات الامنية لتزيد من نكبتها بغلق الشارع بكتل كونكريتية جثمت على قلبها قبل رصيف الشارع كأنها اعلان لنهاية الحلم فتتحول الى كتلة من الخيبات تحلم ان تزيح تلك الكتل ليعود الشارع الى ما كان عليه..حلم آخر دخل الى واحة احلامها..ان تكنس تلك الكتل بعيدا..لم تيأس بل واصلت عملها برفع الكتل رغم عنادها وثباتها في مكانها..واستمرت بمحاولاتها وباصرار حتى ان الجيران وكل من يمر بجانبها يتصورها مجنونة..هي تحاول من دون يأس تحريك الكتل الكونكريتية على الرغم من وصول السيارة الخاصة بمشفى المجانين) ص27ـ ص28

  فالنص يقدم الانموذج الانساني عبر مشاهد سيمية باعتماد الجمل المكثفة التي تصور عالما تتسع دلالاته وتكتظ بالمشاعر برؤية مقترنة بمنطق جمالي من خلال المشهد والارتقاء به..بلغة تعتمد الايجاز والاختزال مع ايحائية واكتظاظ بالحركة المتآلفة ومنطق الحياة..فضلا عن اعتماد القاصين ميكانيكية حركية غائرة في عمق الحدث الذي يجسد عنصر الفكرة المجردة التي تحتضن الحس الشفيف بحلمية مع تدفق شعور الذات المتداخل والحدث السابح في زمكانية مع حوار داخلي(منولوجي).. فكانت هذه العناصرالابداعية متناغمة مع الفكرة بوحدة عضوية متماسكة..محكمة البناء..لذا فالقاصان يقدمان اللحظة السردية المكتنزة بالدهشة والجمال بلغة يومية قادرة على التعبير والايحاء باعتمادهما الجملة الفعلية التي تسهم في تسريع السرد واللحظة المتسارعة المشحونة بالالم ليرسما على نافذة ادراك المستهلك(المتلقي)فيتأملها محركا خزانته الفكرية وشاغلا لها بالتحليل..

(خطفت امامه سحابة سوداء محملة بالدمع..لم يدرك هل هذه السحابة حقيقية؟ ونحن في شهر حزيران..أم هو حدس بأن أمرا خطيرا سيقع..لم يصدق احساسه وتمسك بأمل الخلاص والعودة الى بيته وحبيبته ووالدته التي دفعت عمرها ثمنا ليشب ويكون رجل البيت مكان والده الذي اعياه المرض بسبب سنوات الاسر في ايران..توقف طابور مئات الشباب أمام نقطة محددة من قبل اولئك الملثمين ليأمر احدهم وبصوت اجش بالانبطاح على الارض فيمتثل هو مثل غيره من الشباب بخنوع غريب من دون اعتراض..ولم تتسن له معرفة سر المكان فقد سبقه صوت الرصاص الذي توزع بشكل عشوائي ليعلن مجزرة نسفت 1700 حلم..) ص40

 فالنص ينصب في خانة الواقعية(حادثة سبايكر) التي يتلبسها في بعض مفاصلها نوع من الايهام لكسر رتابة التوقع باعتماد مقاربات اجتماعية مع توظيف امكانات التشكيل الذي تمتلكه القاصة من تفاصيل الحياة مستخدمة له من التقنيات الفنية(لغة دال  ومدلول رامز وقراءة تنطلق من واقع اجتماعي كي تحقق الانتقال من التسجيلية الى الرؤية الفنية بلغة تصنع الغرائبي من المألوف(خطفت امامه سحابة سوداء محملة بالدمع) وتجمعه في بؤرة عالمها السردي المليء بالحركة والحيوية المتدفقة..فضلا عن ان النص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات شيئية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل الذي يبني تصوراته على النسق القيمي..

(كعادته منذ وفاة ابيه عندما تكون مشاكله عصية على الحل يلجأ الى (مسبحة) والده(اليسر) الغارقة بالسواد..يسقط حباتها ثلاث مرات ويتخذ القرار..لم تخب ظنه يوما..ولكن هذه المرة لم يعثر عليها في مكانها..قلب الغرفة..الدولاب لم يجد لها اثرا..تملكه اليأس..غط بدثاره..دفن رأسه تحت الوسادة..قلقه لم يدعه ان ينام..استحوذت على تفكيره..كيف اختفت؟ حاول ان يعود بالاحداث الى آخر مشكلة واجهها واين وضعها؟..

  قبل اسبوعين شارك في عزاء جيرانه بموت ابنهم الصغير الذي صعقته الكهرباء..يبدو انه نساها مع احدهم فهي تجلب الانظار لجمال شكلها وقدمها..لكنه ادرك انه وضعها في مكانها بعد ان عاد للبيت..) ص63

   فالنص عند القاص ينفتح على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان الوعاء الفكري للذاكرة..والحاضنة لفعل وانفعال وتفاعل المنتج بمشاهده المتوالدة من بعضها البعض بمخيلة مكتظة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها بوعي ولغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها بايجاز وتكثيف جملي..مع اعتماد على ميثولوجيا اجتماعية التي يحتضنها الخطاب السردي الذي يعلن عن تجليات الذات وصيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي القائم على لغة ايحائية اللفظ..متفجرة الدلالة مرتكزة على خصوبة المعنى..فضلا عن توظيفه تقانة الحوار بشقيه الذاتي والموضوعي الكاشف عن دواخل الشخصية وهي تتحدث عن عمق وضعها الانساني المأزوم..

ـ سيدي لم تخبرني حكايتك وقد ازفت الساعة لنهاية الرحلة

ـ سيدتي حكايتي قصيرة جدا..انا منبوذ من مدينتي واهلها..اسير الى المجهول لابحث عن منفى لاحلامي فهل ترافقينني؟

استبشر وجهها عن شيء من الحمرة واجابت:نعم سارافقك فقد تكون انت الحلم الذي يراودني بعد….ترجلت من القطار وانا ممسك بيدها الدافئة..) ص74

  فالنص يتحرك في امكنة مفترضة..مجردة تفعل فعلها في الشخصية التي ما تفتأ تحتدم بالتمرد والهروب الى اماكن تحصل منها على حريتها التي هي وعي الضرورة..اضافة الى ان القاص يقيم صراعا عبر حوار داخلي..تأملي بخطاب تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية وهو يعالج شكلا من اشكال الاسقاط النفسي..مع تركيز على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية بتكنيك يكشف عن نفسه من خلال رحلته معه..

ـ أما في قصهما القصير جدا الذي ينطلق من حركة الحد الادنى وشعارها(كتابة مختصرة لحياة مختصرة) فنجد ان الرؤية السردية عندهما مقترنة بمنطق جمالي من خلال المشهد والارتقاء به بلغة ايحائية مكثفة..موجزة متألقة ومنطق الحياة وحركتها التي شكلا احد معطيات المستوى الحسي للنص..مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي واعتماد الضربة الاسلوبية الادهاشية المفاجئة..

(بعد حوارات ساخنة عن الوضع السياسي وخيانات القبيلة ..وبعد اتفاقات وتقاطعات قررا اللقاء في ساحة التحرير دون ان يتفقا على علامة لمعرفة بعضهما..كان الهتاف(باسم الدين باكونا الحرامية)هودليلهم ليتلقف كفها ويهتف بحماس قبل ان يطلق غربان القافلة رصاصهم ويعتقلوه) ص53 

  فالنص يكشف عن الحقل الدلالي المنحصر في ترجمة الاحاسيس والانفعالات الذاتية بتوظيف الطاقة الحسية والفكرية ونسجها بايجاز جملي يحرك الذهن لاستنطاق الصور المعبرة عن لحظتها الانفعالية المدونة للحدث الذي يحدد موقفا  يخاطب وجدان الانسان..

سأله القاضي…

الاسم الثلاثي؟ ـ عراقي مغفل وما زال

العمر؟ ـ اربعون كابوسا

السكن؟  ـ احدى مزابل بلدي

الحالة الزوجية؟ ـ عقيم..حتى لا يولد آخر

التحصيل الدراسي؟ ـ دكتورا بتاريخ بلدي المنهوب

تأمله القاضي ثم قال: لا استطيع ان احكم عليك بالموت..فانت ميت منذ فجر التاريخ/ ص78

   فالنص يكشف عن قدرة تعبيرية وافق متسع الرؤى بتخطيه المبنى والمعنى واعتماده الحركة الدرامية  وفق معيار حكائي له التزاماته الموضوعية مع توظيف مقومات واساليب تعبيرية اضفت على النص حركية فاعلة.. منفتحة على آفاق دلالية مشبعة بها الذكرة ..

(بين ضراوة الجوع وقلة النوم واصل الطرق على باب المسجد ليلا..جاءه الصوت رخيما:من؟

انا سيدي رجل مهجر ابحث عن رغيف خبز ووسادة

كان الرد سريعا: المسجد يفتح ابوابه في اوقات الصلاة فقط  / ص109

فالنص يحقق عنصر الاضاءة السريعة للحظة المستفزة للذاكرة بما تحمله من معنى ايحائي باتخاذها مسارين فنيين متضادين(الواقع والحلم) وهما يعبران عن الحالة النفسية باسترسال سردي ينتهي بضربة اسلوبية مفاجئة..

وبذلك قدم القاصان نصوصا سردية مركزة على الجوانب المعتمة في الانسان والتي تمثل حقيقة الواقع الذي نفذت اليه فكشفت عن كوامن النفس الانسانية..

قد يهمك أيضاً