د . ضياء خضير
وهذا الجانب الرمزي يمكن أن يكون الحكم السياسي في العراق وطريقة تداول السلطة فيه، أو انتقالها بهذه الطريقة العبثية، هو المقصود فيه. أي أن ذلك الصراع المصغر في قبيلة (العماريين) حول المشيخة ومنافعها المادية والاعتبارية قد يمثل أو يعكس، بهذه الطريقة أو تلك، الصراع على السلطة في العراق وعقم قادتها وزعمائها السياسيين.
غير أن هذا الرمز يبقى مجرد فرض وإمكانية غير مؤكدة، لأنه ليس ميزة واضحة من ميزات هذه الرواية على مستوى بنائها وتقنيات كتابتها السردية، كالتقابل والتوافق والتوازي واستدعاء النظير ، وما إلى ذلك من أمور نستطيع ان نرى من خلالها نوعا من التفاعل والتقابل بين خارج الحكاية وداخلها أو بين المستعار والمستعار له فيها . وهي أمور لا وجود لها في هذه الرواية إلا على نحو بعيد وغير مؤكد، كما ذكرنا.
الذي نجده هو فقط هذه الحكاية الغريبة عن شيخ كبير يوصي، عند موته واجتماع الناس في مضيف القرية حوله، بكل أمواله وممتلكاته الى أمه، فيما يترك زوجته التي لم تنجب منه تحت رحمة الآخرين، بعد ادعائها الكاذب أنها حامل منه. وذلك يحدث دون سبب واضح ،ودون أن يكون لهذه الأم دور ، أيُّ دور، فيما يلي من أحداث الرواية.
والواقع أن مجمل فصول السرد أو أوراقه الثماني عشرة في هذا النص قد بقيت ذات طابع تجريدي في صورتها العامة، إذ ليس هناك غير هذا الوصف أو الحوار الذي يجري بين السارد وصديقه راضي اللذين كانا يعملان معلمين في مدرسة القرية نفسها، أو بينهما وبين حبيبتيهما اللتين فشلا كلاهما في الاقتران بهما، أو بينهما وبين والديهما اللذين صار كل واحد منهما وكيلا لوريث الشيخ المزعوم ، هذا الوريث الذي تقول الحكاية إنه موجود في لندن للدراسة، وأن هناك رسالة أو رسائل مكتوبة ترد منه أو باسمه من هناك لتسمية الوكيل في كل مرة يحدث فيها فراغ في جباية الأموال في هذه القرية.
أما الفلاحون، موضوع الاستغلال في هذه القبيلة ، فلا وجود ولا صوت واضحا لهم في الرواية غير إشارات عامة ليس فيها أية تفاصيل من شأنها أن تمنح هذا الصراع على (المشيخة) معنى واقعيا أو اجتماعيا حيّا، وروحا يغتني بها النص ويتسع على مستوى المتخيل الحكائي. فما لدينا فقط هو بعض الأوصاف العامة لواقع الحياة في القبيلة أو تاريخها ومنزلتها السابقة المرموقة بين القبائل الأخرى، وما حل بأراضيها بعد ذلك على نحو يبدو معزولا عما يجري بين بعض المتنفذين من أبناء هذه القبيلة:
“أراضي قبيلتنا تئن مجروحة رقصت فوق مسرحها عشرات العشائر والأفخاذ والأسلاف بناسها وحيواناتها ومزروعاتها. إلا أنها مع كل أسف غادرها الناس والحيوان . تفرق الجميع في أماكن لا تعرف أية بوصلة اتجاها لهم. فيما ماتت مزروعاتها واستوطنتها المحنة والخراب والهوان وتعق فيها الغراب، وأصبحت بيوتها أطلالا.” (مطلع الورقة السابعة عشرة) .
وما يقوله الراوي في مكان آخر من أن محنة هذه القبيلة قد ” حدثت بعد موت الشيخ الكبير الذي تركها هملا بلا شيخ يقودها ويلم شتاتها ويشارك القبائل الاخرى همومها “. أقول إن الحديث عن هذه المحنة دون الدخول في تفاصيلها يترك الرواية عارية من أهم ما ينبغي أن يتوفر لها من أغطية سردية مناسبة هي، في العادة، لحمة الرواية وسداها.
والغريب أن هذا الراوي خريج الجامعة المختص بالتاريخ ، والمعجب بالفلسفة الوجودية، ليس له عناية كافية بالتاريخ الاجتماعي للصراع في مجتمع قبيلته، ولا يمتلك كذلك أية أفكار خاصة بهذه الوجودية، ولو في صورتها العامة المتصلة بإعادة الاعتبار للإنسان، ومراعاة تفكيره الشخصي، وحريته، ومشاعره الخاصة، وغير ذلك مما يمكن ان نرى له انعكاسا ما في مرونة السرد ومجمل حركة الشخوص والنظر إلى الأمور في الرواية بصرف النظر عن معرفة أبطالها أو عدم معرفتهم بالفلسفة الوجودية، و بصرف النظر أيضا عن إيمان بطلها الراوي نفسه أو عدم إيمانه بهذه الوجودية كفلسفة حياة، وتأكيده المتكرر على أنه ليس وجوديا، وأن وجودية سارتر لا علاقة لها بتفكير ناس قبيلته وتقاليدهم السائدة.
وبعض الأمور التي كانت موضعا للنقاش بين (خيري) وصديقه (راضي) عن هذه الوجودية وبعض أسماء أصحابها في أحدى أوراق هذه الرواية بقيت خارجية، ولا موضع لها على صعيد بنية السرد ورؤيته العامة.
وللراوي النائب عن المؤلف نفسه في هذا النص وقفات يطلب فيها من القارئ (مساعدته) في اختيار الطريقة التي يمكنه فيها إتمام كتابة هذه الرواية وإدارة مجمل وقائعها، دون أن نشهد تغييرا يذكر في طريقة السرد من شأنه أن يحدث شيئا في هذه الوقائع والوحدات السردية أو الرؤية المرافقة لها عدا عن صدق لهجة السارد ومحاولته الجادة إيجاد الطريقة الأفضل لحكاية فصول روايته وبحثه عن سبيل أنجع لتحقيق إنجاز أكثر قوة على صعيد الكتابة التي هي :
” ألم ، مخاض، ولادة، وبحث عن إبرة في كومة قش تقع في الغرفة الخلفية لبيت ريفي”، كما يقول في مطلع الرواية.
وما ذكره هذا الراوي أو المؤلف النائب عنه فيما أسماه (ورقة خارجية ثانية) عند نهاية الرواية من أن روايته تلك كانت مجرد خيال، نعم مجرد “خيال ملتبس بالفن كما يلتبس إبليس بالنفس البشرية ” ، وأن جدته لم تكن (حكواتية)، وأن ما جرى سرده في هذا النص ليس له علاقة بحياته المدينية الخاصة البعيدة عن الريف والقبيلة وأبطال حكايته وصراعات مشايخها، أقول إن هذا النوع من التصريح الموضوع على هامش السرد، يبقى هو الآخر زائدا ولا ضرورة ملزِمة له. فليس هناك رواية مكتوبة دون وجود مثل هذا الخيال حتى إذا كانت كمية الواقع الذي جرى تسجيله فيها هي الغالبة. فالمهم في عملية السرد هو الإيهام بالواقع وضبط الإشارات المتصلة بكل ما يحدث على الورق فيه، بحيث تكون الرواية قادرة على الوفاء بمتطلبات السرد حتى بصورته التقليدية التي استهلكت وابتذلت وجرى تجاوزها في النصوص السردية الحديثة، وما تنطوي عليه هذه الأخيرة من وسائل وتقنيات تعبيرية تكشف عن الواقع وتجسده بطريقة تتجاوز الصور التسجيلية أو الوثائقية الطبيعية. والحديث عن الرواية داخل الرواية ليس هو الرواية، وإن كان ذلك يعكس إحساس الراوي بوجود نوع من النقص الذي كان يسعى لاستكماله. وهو أمر إيجابي يؤكد على الشعور بمسؤولية الكاتب والكتابة والطموح الذي يحمله على الإسهام في تدوين جانب من مأساة الجنوب العراقي بكل امتداداتها القبلية والاقتصادية والاجتماعية والعاطفية المتعاقبة.
لقد وضع المؤلف على صدر روايته كلمة لدافنشي تقول :
“كثيرون هم الذين اتخذوا من الأوهام والمعجزات الزائفة وخداع البشر تجارة لهم” . وأنهاها بكلمة أخرى لهذا الفنان الإيطالي الشهير نفسه : “الجهل يعمي أبصارنا ويضللنا ، أيها البشر الفانون افتحوا عيونكم” .
وبين كلمتي البداية والنهاية هاتين، يمكننا أن نرى موقف المؤلف الذي حاول أن يعرض عبر هذه السردية ذات الطبيعة التجريبية في بعض أجزائها، جانبا من الجهل والجهلاء المضللين من أصحابه، باعتبار ذلك جزءا من التاريخ الغائر في تراب أرض القبيلة وعقول كثير من أبنائها الذين صنعوا المحنة وكانوا ضحاياها الممتحَنين بها، في الوقت نفسه.
وبين المعلوم والمجهول في أوراق هذه الرواية، تظل محاولة دَاوُدَ سلمان الشويلي “إيجاد منفذ للخروج من الذاكرة” ، وإدراكه المعلن أن “الواقع الحقيقي ليس هو الواقع الافتراضي المسطر على الورق ” ، جديرة بالاحترام والتقدير، على الرغم من كل شيء.