اراء وأفكار

أم حسن كانت أم أبو زهرة أيضا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مهند البراك

 

 في الذكرى الـ 85 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي المناضل، وفي اثناء كتابتي عن انقاذ الجرحى المخطورين من البيشمركة الانصار الابطال و طلبي بتذكيري عن الحالات الطبية الصعبة التي واجهتها، استلمت مادة مؤثرة عن استشهاد الفنان التشكيلي الشجاع ” معتصم عبد الكريم ” ترجمها و ارسلها لي مشكوراً رفيق النضال العزيز رزكار (د. رنجبه ر) واعادني الى بدايات سنوات النار في نوزنك شتاء 1980. وهذا نص الترجمة لهذه القطعة المكتوبة بالكردية في صفحة (كوردستان بوست) بقلم كاتب مجهول الاسم:

    ” ام حسن كانت ام ابوزهرة ايضا”

    في بداية اذار ١٩٨٠ نزلنا مفرزة صغيرة من ناوزنك الى مناطق شارباشير ووادي جافايه تي ، ولاول مرة رافقنا رفيق شاب عربي، كان ذا لحية طويلة، متوسط القامة ضعيف البنية، كان يحمل بندقية صليبي وحزام العتاد ويرتدي ملابس كردية ولكن لم يكن يعرف شد الدوخين لذلك كان شرواله مشدودا بشريط لاستيكي، على راسه جمه داني بدون الكلاو، وحقيبة على ظهره، كان هذا الرفيق اسمه معتصم عبد الكريم و يلقّب بابي زهرة.

    كان شكله لا يشبه البيشمركه بل كان على هيئة فنان، وبعد ان عرفته عن قرب، كان فنانا عن جد مثل ما توقعت، كان دائما مشغولا بالرسم وفي القرى كان يتجمع الاطفال حوله فيرسم لهم، ابو زهره كان شابا وسيما ومحبوبا وكتوما قليل الكلام ، كان يشرب الشاي كثيرا، (الكتلي) كان يكفينا كلنا ولكن كان هو بحاجة الى كتلي لوحده. و قد توزعنا معا مرات كثيرة في بيوت القرى، كان ساكتا طوال الوقت وموضع سؤال الناس لسكوته الدائم.

    في ٢٣ اذار قبل يوم من معركة قزلر كنا في قرية زيوى كما في الايام السابقة، خرجنا من القرية مبكرا لان قطعات الجيش كانت تهاجم القرى باستمرار، توجهنا الى الجبل الذي خلف القصر، كنا نمشي في طرق ضيقة و بين اسوار و حواجز. وعند تعداد عدد المفرزة تبين ان احد الرفاق غير موجود! بعد السؤال تبين بان ابو زهره غير موجود فبدأنا بالبحث عنه ورجعنا لموقع الانطلاق ولكن دون جدوى، لم نعثر عليه، و قد ظهر بعدئذ ان ابا زهره اخذ الطريق المعاكس تماما باتجاه قره جه تان طريق عام دوكان ـ سليمانية و عندما شعر بانه وحده، بدأ يرجع بعكس الاتجاه فلاقيناه.

   بعد الانتشار و الاستراحة و شروق الشمس نادينا على ابو زهره لتبيان سبب عرقلة المفرزة و محاسبته، فقال انه كان متعبا جدا و شبه نائم لحين شعوره بانه وحيد فرجع بنفس الطريق، اقترحنا كعقوبة له ان يرسم صورة البيشمركه على جدار قصر هناك، وعلى عجالة أتى بالفحم و بدأ يرسم وبعدها بدأ يرسم صورة الرفيق حمه صالح بشواربه الطويلة، الى اليوم لا اعرف من اي مدينة ابو زهره، اين ولد، من هم اقاربه، فقط اعرف انه من بيشمركة الحزب الشيوعي.

    في 24 اذار 1980 استشهد ابو زهره مع كوكبة من الرفاق الاخرين، وفي اليوم الثاني قامت القوات الخاصة بانزال كبير و قام افرادها بنبش و حفر قبور الشهداء و اخذ جثثهم الى السليمانية. لم يكن للشهيد ابو زهرة اهل ولكن “اختر شيخ علي” ام الشهيد حسن قالت بان العربي ايضا ابني فاخذت الجثمان مع جثمان ابنها و اودعتهما في مقبرة جنب بعض و كانت تزورهم كل اسبوع طيلة بقائها على قيد الحياة وكانت وصيتها ان تستمر الزيارة اسبوعيا، لذا “ام حسن كانت ام ابو زهره ايضا”. واذا ماكانت هذه القطعة مؤثرة للقارئ الكريم، فإن دور الام “ام حسن” كان يفوق التصورات في ذلك الوقت، فبعد ان دفن اهالي قزلر الشهداء الستة في مقبرة القرية، بعد ان افرغوا محتويات جيوبهم وسلموها بعدئذ للحزب -استلمت اخت الشهيد الفنانة المسرحية نضال عبد الكريم بعد سنين، ربع دينار ودفترا صغيرا فيه ملاحظات ودفتر تخطيطات للشهيد وهذا كل ماكان في جيبه لحظة استشهاده-.

 قام افراد القوات الخاصة في اليوم التالي بانزال في المنطقة و قاموا بنبش القبور في قزلر و اخراج جثامين الشهداء، و قاموا بسحلها و التمثيل بها و اعلنوا منع اي مراسيم للفاتحة على ارواحهم. عند باب المقبرة، اخذ أهالي الشهداء الأكراد ابناءهم الا معتصم فهو الوحيد الغريب، فتقدمت ام حسن رغم كل اجراءات السلطة في اثارة الخوف و الرعب و التهديدات التي تفننت بها، وقالت “هذا ابني اخو حسن” وتبنته لمدة أربعين عاما، حيث كانت تزوره كل خميس وتشعل الشموع عنده، في موقف جسّد الوفاء لدماء الشهيد الذي سقط شهيداً في معركة غير متكافئة حشّد لها العدو عشرات سمتياته و دروعه و المئات من افراده ومن افراد جيشه، في مواجهة مفرزة من 16 نصير.

الوفاء للشهيد الذي جعل من حتفه جسراً من اجل قضية الجميع، الموقف الذي جسّد الروح الانسانية و الاممية العالية لتلك الام، و كان ولايزال درساً شدّ الهمم في تحديّ موقف السلطات الدكتاتورية الغاشمة التي عملت على بقاء جثمان الشهيد معتصم في العراء، في محاولاتها القذرة  نشر و تشديد الاحقاد القومية و تفريق صفوف البيشمركة، و هو درس هام لمن لايعرف الاهمية الكبرى للمرأة في مجتمعاتنا، من اجل التقدم و الرقي.

    ام الشهيد حسن الكردية هي من دفنت الشهيد معتصم العربي بروحها الاممية و وفائها، وهي من بنت له القبر واعتنت به طوال هذه السنين. 

قد يهمك أيضاً