اراء وأفكار

امشِ أعوجيحتار عدوك فيك

محمد مؤنس

يقول المثل الشعبي: “امشِ عدل يحتار عدوك فيك”، وكأنه دعوة لأن تكون واضحاً، مستقيماً، ظاهرك كباطنك، حتى تترك خصومك في حيرة. لكني أزعم، بل أؤمن جازماً، أن هذا المثل خاطئ تماماً ولا يمت للواقع بصلة، لا في مضمونه ولا في نتيجته.
الإنسان المستقيم — بطبيعته — هو إنسان واضح، صريح، لا يلف ولا يدور، قراراته مباشرة، وخطواته مكشوفة. وهذا قد يكون جميلاً على المستوى الأخلاقي، لكنه لا يُحيّر أحداً، بل يجعل منه هدفاً سهل القراءة، واضح الأبعاد، حتى لأعدائه.
فما الذي يُحيّر العدو حقاً؟ هو ذاك الشخص الذي يسير بشكل غير متوقع، لا يتخذ خطاً واضحاً، لا يكشف نواياه ولا يُظهر أوراقه… باختصار: الذي “يمشي أعوج”.
المستقيم مكشوف… والمراوغ مربك
في واقعنا المعقّد، لم تعد “الاستقامة” وحدها كافية لبناء الحماية الذاتية. الإنسان الذي يسير بخط واحد لا يترك مجالاً للشك، صحيح، لكنه أيضاً لا يترك مجالاً للمفاجأة. من السهل على خصومه أن يعرفوا ما الذي سيفعله لاحقاً، وما الذي لن يفعله أبداً.
بينما الإنسان “المراوغ”، أو “الغامض” إن شئنا وصفه بشكل ألطف، هو الذي يصعب توقعه. لا يُفصح عن كل شيء، يتغير حسب الظرف، يُجيد لعبة التوقيت والتصريحات والانسحاب في اللحظة المناسبة. وهذا هو الذي يُربك العدو فعلاً، ويجعل خصومه في حالة من التخبط الدائم، لا يستطيعون الإمساك به ولا فهم دوافعه..هكذا تجري الامور في السياسة.
وأما في الحياة اليومية، نلاحظ أن الشخص الصريح، المباشر، هو أكثر من يتعرض للهجوم أو العزلة، لأنه لا يجامل ولا يُجيد النفاق الاجتماعي. أما ذاك الذي يقول لكل شخص ما يحب سماعه، ويتفنن في التلون حسب المجلس والموقف، فهو الأكثر قبولًا — ليس لأنه أفضل، بل لأنه أكثر غموضاً وأقل صداماً.
دعوني اكون واضحا هنا لا أحد يدعو إلى الخداع أو النفاق أو التخلي عن المبادئ. نحن نتحدث عن الحذر الذكي، عن الاحتفاظ بجزء من الذات بعيداً عن العلن، عن أن لا تكون دائماً مكشوف الأوراق أمام الجميع.
الغموض في بعض الأحيان ليس كذباً، بل وسيلة للحماية. والاستقامة المطلقة قد تكون فضيلة، لكنها في هذا الزمن قد تتحول إلى نقطة ضعف إذا لم تكن محاطة بالحكمة.
ختاماً…
المثل الشعبي الشائع بحاجة إلى مراجعة عميقة.
فعبارة: “امشِ عدل يحتار عدوك فيك” قد تصلح للقصص المثالية، لكنها لا تنطبق على الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث لم تعد النوايا الطيبة تكفي، ولا الاستقامة وحدها تُربك؛ فالذكاء الاجتماعي والسياسي والعاطفي لم يعد في الصراحة فقط، بل في معرفة متى تصمت، ومتى تتكلم، ومتى تمشي مستقيماً، ومتى تتعرّج قليلاً… بحساب.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان