الدكتور حيدر علي الاسدي ( ناقد واكاديمي)
المجموعة المسرحية البكر للشاب البصري ( علي مؤيد) أولى خطواته في التأليف المسرحي والتي ضمت 10 مسرحيات والصادرة العام 2025 عن دار ومنشورات وتر ، وهي تجربة حديثة تستحق التوقف عندها وقراءتها وتحليل تلك النصوص للكشف عن الانساق الفكرية لهذا الجيل الجديد وطرق تفكيرهم وتعاطيهم مع مفاهيم الحياة المتنوعة ، فيقول الشاب (علي مؤيد) في مقدمة المجموعة المسرحية (اهتم حقا بتحولكم بعد قراءتها …او بالأحرى بفزعكم وخوفكم) انه مبدأ تطهيري ارسطي عبر الشفقة والخوف لتحقيق (التطهير) فكل ما يعرضه الشاب علي مؤيد في هذه النصوص المتلازمة الثيم انما هي موضوعات تتعلق بوجود الانسان ونظرته ونقد منظومة القيم الاجتماعية والدينية بطريقة غير مباشرة او بطريقة فيها من الحنق والانتقادية ما يكفي، انه يمثل صرخة هذا الجيل على النمطي السائد من هذه المنظومات وما القت بظلالها على حياتنا الراهنة، انه لم يكتف بفاعلية سلطة المكان المعادي بل حتى انه يحول من المكان الاليف الى معاد بصورة واعية قصدية او بصورة غير واعية وفقاً لسيكولوجية لحظة الانفجار الإبداعي للشاب في هذه النصوص لحظة تتأثر بميكانيزمات المرحلة العمرية للمؤلف وبيئات تشكل وعيه الفكري، سواء اكانت كتبت بطريقة المتوالية او على حقب زمنية متباينة ، الأمكنة المعادية تنطلق بتأثيث مجموعته بفاعلية سلطوية راكزة من (ردهة الإنعاش/ غرف موصدة/المغتسل/حفرة القبر/سجن الجحيم/مكان مسرحية تفسخ) ومن خلال تلك الأمكنة تتسع رؤية العدمية والسوداوية التي (تبدو) قافزة للقارئ لبنى تلك النصوص المسرحية ولكنها تحتاج قراءة ثانية عميقة (إنتاجية) لإعادة ترميم المعنى الذي يرمي له المؤلف في هذه المجموعة (التفسير/تكرار القراءة/ التأويل/ التفكيك) رغم ان تلك النصوص التي يجمعها الهم المشترك الاحادي قد شابها بعض التداخلات في شكل الكتابة وهو تداخل جمالي لا ضير فيه ولكنه قد يبدو مشكلة في تحويل النص الى عرض عياني كما في خلط الأسلوب السردي الروائي مع المسرحي ( يأتي مسرعاً واحداً اخر لكي يملأ السرير . من المعيب جداً ان يبقى سرير في الإنعاش الرابعة فارغاً! انها الجنة بالنسبة لهم، وهل من الممكن ان يبقى مكاناً في الجنة لا يستغل/ص7)) كذلك ((يقترب من الفتاة ويشاهد الجمهور من تحت يدها اليسرى : توفيق ستعيش حياتك هكذا ترى العالم من تحت العالم وتضع نفسك في لحظة مستفزة لحظة مستفزة جدا ، هذه اللحظة والتي قبلها والتي ستليها……الخ/ ص55 وما يليها 56)) وكذلك : ((كل شيء خرج عن السيطرة حتى الحزن اصبح دائماً جداً بكل لحظة…الخ / ص59) او خلط العامية مع الفصيح التي جاءت ضمن لحظة الصعود الدرامي او لحظة قمة السخرية الناقمة فلا ينفع معها الا التعليق الساخر بهذه اللغة العامية ، المؤلف رغم حداثة تجربته وعمره ووعيه الا انه سعى لكسر بعض التابوات وبخاصة الديني وان اقترب احياناً بعض الشيء من (السياسي) وكسر التابو تمثل في الإشارات المتكررة لبعض المفاهيم المتعلقة بصورة الرب والسماء وايضاً فكرة ووظيفة (عزرائيل ص7) كما في حديثه عن الجنة واحتساء الخمر! ويبدو من خلال قراءتي المتعمقة بهذه المجموعة إحالة فكرية وفلسفية لتأثر واضح من الكاتب بأسلوب الكاتب العراقي علي عبدالنبي الزيدي في مجموعتيه (الالهيات/ ما بعد الالهيات) والتي قد يبدو انها المعطف الذي خرج منه الشاب (علي مؤيد) فالكاتب الشاب علي مؤيد يقدم نظرته للحياة من زوايا مختلفة مبنية على وجهات نظر مختلفة ( ادم / نيوتن/دارون / كلكامش، ماركس) وجهات نظر بالكون والوجود ( البدايات والنهايات) حتى نصيات الحزن للشاعر مظفر النواب كان الاستدعاء بدواعي (الحزن) مما يهيمن فكرة (السوداوية) و العدمية) الواضحة في متونه المسرحية (بالنسبة لظواهر النصوص) وبالنسبة للقراءة البنيوية لتلك النصوص! لكنه وعبر جمله يخفي انساقاً مضمرة يغطيها من خلال ما يبدو متجلياً في الأثاث الكلامي الخارجي ، يستمر هذا التأثيث الظاهري في مجموعته المسرحية : ((نغرق في العدم) ((الكون العفن)) ((الذاكرة العاهرة)) فيبدو المؤلف متشككاً ومتردداً بالوجود وفقاً لمرجعيات إيمان الفكر الديني بفيزيقية الوجود وابعاده الغيبية والماورائيات كما في معاني ومدلولات (لحظة الانفجار/ سفينة نوح/ حكم الخالق) هنا تعود مرة أخرى سلطة الأمكنة المعادية لتدفع الأمكنة الاليفة التي عرفناها، هي لحظة تجل لذات قلقة مترددة تنظر للعالم على انه (نسبي متناقض حد الرعب وعدم الاستقرار) لحظة انعكست فكرياً في تلك النصوص المسرحية لتنفي الكثير من اليقينيات التي تهتز في زمن الفوضى والقلق والتناقض والموت والحرب :((وطبان: يا اكرم من هو الرب؟ من اين اتى ؟ وأين هو الان/ص31)) عن الرب مرة أخرى :((لكنك موجود في كل مكان/ص32)) ويبدو في المقتبس الأخير ان الكاتب فاته نفي صفة “المكانية عن الله الخالق” ويستمر الكاتب على المنوال ذاته ((باب الجنة اخضر اصفر تافه جداً لا يقوى ان يحمي جنة/ص33)) (باب الجنة يحترق/انفجار في السماء السابعة/ص61) وهنا يتحول المكان الاليف المحبوب من الجميع ( الجنة/ السماء) الى مكان معاد خطر في لحظة (احتراق/ انفجار) يعني مكانا غير امن بالمعنى الجديد الوارد في متن هذه النصوص المسرحية ، ويستمر المؤلف الشاب بالعزف على وتر استدعاء مفهوم وصورة الرب وهو لغة بانت واضحة في السنوات الأخيرة من اجل محاولة لفت الانتباه او المغايرة بالطرح والخروج من نسق بشرية الشخوص او بشرية وجهات النظر الى توظيف مفهوم الرب بوصفه مغايراً في الهيمنة وقد لا نتفق بالتأكيد مع اغلب تلك الاستدعاءات او التوظيفات التي غالباً ما تكون استعراضا لغويا لا قيمة فكرية او جمالية فيه بداخل تلك النصوص المسرحية التي يفترض انه تكون رسالة تنمية واعية للإنسان وعلاقته بالرب لا العكس تماماً؛ كما ورد ذلك في المسطور الحواري الاتي : ((الرب يعزف أوركسترا ويبكي//ص33)) وكذلك : ((اكرم : ايعقل ما حصل ملك الموت يموت! نفق مثل أي شخص!/ص35)) وهذا خلاف ما ورد وتوارث في الفهم الديني على ان ملك الموت اخر الموتى ، ولكن هل ترك الشاب علي مؤيد هذه التساؤلات الجدلية والمحيرة مشرعة ومفتوحة؟ لا ، فهو يرد على كل هذا بنهاية المسرحية : ((هذا الكون لا يتسع للأرباب جميعاً…الكون للخالق وحده…الكون للخالق وحده/ص37)) ان الكاتب الشاب علي مؤيد يمتلك لغة أدبية جميلة (حوارياته عن الوجود ، قتل الكاتب لملك الموت/ الخ) وهو يحسن توظيف الايقونات التي يستدعيها من الحياة وموروثنا الإنساني ويحيل ذلك لدلالة معبرة في نصوصه المسرحية : (شجرة مقلوبة، لوحة مقلوبة) (غربان تغرد) دلالة التناقض، تناقض هذه الحياة التي تسير بالمقلوب وهو بمجمل مسرحياته كان ناقما على هذا التناقض ويطالب بالاتزان والعودة للأنصاف والعدالة التي يعيش في كنفها الجميع،وكذلك في رمزية : (تفاحة ادم، تفاحة نيوتن) وفاعليتهما مع المكان (الجنة/ تحت الشجرة) الجاذبية ومآلاتها التي افضت الى الحياة المعاصرة ، ويحاول المؤلف منطلقاًَ من فكرته الفلسفية كما لحظنا في نصوصه المسرحية من (استدعاء) دارون / كلكامش / ماركس/ واخرين كأفكار وليس كشخوص : ((دارون : نكتة سخيفة من نكات ربك يا ادم ، هذا ان كان ربك موجوداً اساساً/ص23)) قد لا تكون هذه اعتقادات الكاتب بقدر ما هي استعراض لوجهات النظر المغايرة واثرها على (الاخر/ المغاير) وانعكاس تلك المتناقضات على منظومة الحياة الراهنة على وفق ما يراها الكاتب الشاب علي مؤيد وان كان عكس ذلك فان تلك النصوص تحمل التناقض الصارخ بطياتها كما اشرت سابقاً الى تغاير مفهوم صورة الرب في الثيمة والدلالة لدى المؤلف على امتداد هذه النصوص المسرحية ، ولابد من الإشارة الى مسرحية (تفسخ) في هذه المجموعةلأنها فكرة جميلة لو ان الشاب علي مؤيد حاول ان يطور احداثها وشخوصها وحواراتها.
وفي الختام: ان البنى الفوقية لمسطور المؤلف كانت تشيء الى كمية كبيرة من السوداوية والعدمية ((توقف عن البحث لا يوجد أي شيء هنا هذا هو العدم/ ص49) من مسرحية عقول بلا ارجل.
ناهيك من تكرار ثيمة (الجنون) ودلالتها. وكذلك (التيه والضياع) الممتد بصورة علنية على شخوص النصوص المسرحية انما يكمن كل ذلك في رؤية احتجاجية صارخة من هذا الشاب الذي وجد نفسه في أماكن قلقة بصورة دائمة وزمن لا يوجد فيه من الاستقرار ما يبعث على الراحة السيكولوجية او الاطمئنان لغد خالٍ من صور الموت فلذلك هيمنت عليه هذه الفواعل السوداوية لتكون الثياب الخارجية لنصوصه المسرحية ، ولكن لدى الكاتب سلطة الفكر والوعي ليعيد انتاج رؤيته لهذه الحياة ومنظومة العلاقات بين البشر والمجتمعات والتجمعات بصورة اكبر وانجع دلالة ومعنى وهذا ما يمكن ان نتأمله من هذا الشاب الموهوب في الكتابة والشغوف بمطاردة الفكرة ضمن انساق مكانية وزمانية تشكل لحظات وعيه الأولى والراهنة.