حسن الموسوي
تنقلنا الشاعرة العراقية آمنة الأسدي من خلال قصيدتها قرابين خلف ناصية الانتظار إلى التراث الشعبي العراقي وخصوصا مدينة بغداد وقصصها الساحرة ألف ليلة و ليلة ، تلك القصص التي كانت تمد الكتاب بالمخيلة الخصبة ، يقول فولتير { لم أتصد للكتابة إلا بعد أن قرأت ألف ليلة و ليلة أربع عشرة مرة } .
يعد العنوان العتبة النصية الأولى، وهو الذي يختصر القصيدة كلها بكلمة واحدة أو عدة كلمات ، والعنوان متطابق جدا مع القصيدة .
فقد كشف العنوان عما تريد قوله الشاعرة في قصيدتها ، فشهريار الملك المستبد بحاجة إلى المزيد من الفتيات اللواتي قد تم تهيئتهن للتضحية بهن ، فهو كالقرابين التي تنتظر الذبح .
صحيح ان قصص ألف ليلة وليلة تندرج ضمن القصص الاسطورية أو الخيالية إلا انها موجودة في حياتنا المعاصرة ، حيث المجتمع الذكوري الذي يتسلط على المرأة ولا يرحمها .
تصور لنا الشاعرة آمنة الأسدي ما كان يجري في تلك الليالي المشبعة بالدم حيث الغروب قد فرض سطوته ، والغروب هو الأفول ، والأرض التي هي مكان للحياة قد ارتدت الظلام وأخرس الجميع وبقي الملك شهريار يفعل كل ليلة في قتله للفتاة التي يتزوجها وفي ليلة زفافها { خيم الغروب وسط الزحام / وارتدت الأرض ثوب الظلام / اضطرب الكلام / هدأ الكلام / سكت الكلام } .
لكن هذا الحال لن يبقى للأبد ، فدوام الحال من المحال كما يقولون ، لأن للشاعرة قولها الفصل في التغيير و اجتثاث تلك الممارسة الدموية المتسلطة .
تشير الشاعرة إلى أن كل الفتيات في المدينة هن مشروع للتضحية في سبيل إرضاء رغبات الملك المتعطش للدماء ، كذلك تشير إلى وقت ارتكاب الجريمة وهو الليل ، و تتساءل عن الانصاف في بلد تحكمه الأعراف { كل الجميلات عرائس / عند غروب الشمس / الفجر غائب / والندي يغسل الذوائب / أعرفتم / كم هو الإنصاف/ في بلد الأعراف } .
ممارسات شهريار فاقت كل الحدود ولم يثنه عن عمله أي شيء .
{ شهريار يا شهريار / اليوم وكل يوم / احضروا التوابيت / و أكاليل الورد } تتحدث الشاعرة عن طقوس التضحية بالنساء وكأنها طقوس مقدسة حيث يتم تحضير التوابيت ، وهي جمع تابوت وذلك للدلالة على أن هنالك المزيد من الضحايا ، بالإضافة إلى أكاليل الورد في إشارة إلى تعظيم منزلة الضحايا .
تشير الشاعرة إلى دور المرأة ونضالها من أجل استرداد حقوقها ، فمن خلال هذه الحرية تتم محاربة هذه الطقوس المجحفة بحق المرأة ، وان هذا النضال يتم عبر القلم { رسالة المثقف } .
وهنا لابد أن نشير ما للقلم من دلالة { كمموا كل شيء ما عدا قلمي / اخلطوا كل الدماء ما عدا دمي / والحقيقة في فمي } .
وهنا دعوة لنشر الحقيقة والتحدث فيها حتى ان وصلنا إلى مرحلة تكميم الأفواه وتدفق الدماء ، الإشارة الأهم أن دور التحدث بالحقيقة حسب الشاعرة هي المرأة الثائرة ، إلى أن يأتي الذي يتكلم فيه حتى الجدار ، وتنطق العيون عن جرائم بشعة مورست ضد النساء { سينطق ذات يوم / جدار الأرض/ ويقول ما لم يقل / ستنطق العيون / كيف تشنق الزهور / وتسمل العيون / في مجالس الكهان السادة الكرام } .
تستخدم الشاعرة كلمة { تسمل} وهي كلمة ليست عربية أصيلة ، حسب معاجم اللغة العربية، وتعني فقأ العين أو استأصلها .
في الختام لقد فاجأتني الشاعرة آمنة الأسدي بهذه القصيدة الرائعة والتي تحمل مضامين كثيرة لعل أبرزها الصرخة في وجه الظلم من أجل نيل الحقوق ، وكما يقال فإن الحقوق تنتزع ولا تعطى .
القصيدة
قرابين خلف ناصية الانتظار
خيم الغروب وسط الزحام
وارتدت الأرض ثوب الظلام..
اضطرب الكلام..
هدأ الكلام..
سكت الكلام..
ومرّ في قلوبنا الصمت ُ والزؤام
وأدرجت قضية الأنام
بالسرّ والكتمان
لاضير ..
نحن بلد القداسة والسلام..
هاجرت الارض النوارس والحمام ..
أغلقت تلك الصفحة المريرة
زُفّت إلى المثوى الأخير
انهمرت دموع …
العذارى كالشموع..
سقط الستار …
شهريار في الانتظار ..
قربان جديد/ الأميرة الحسناء
هذا المساء وكل مساء
خذوا بأطراف ثوبها الشفاف ..
تضمّخه الدماء
ويعلوه الغبار أشارت الاصابع ُ
بالحيفِ والبهتان
الى تلك النجمة
الهائمة في العتمة
فالحقيقة تنام …
في حجر الظلام.
والكواليس في مدينتي كثيرة
كل الجميلات عرائس
عند غروب الشمس
الفجر غائب
والندي يغسل الذوائب..
اعرفتم !!؟
كم هو الإنصاف
في بلد الأعراف..
شهريار ياشهريار ..
اليوم وكل يوم!!!
أحضروا التوابيت
وأكاليل الورد.
والعطور في المبخرة
جهزوا الأميرة النضرة
حان الوقت.
كان ياماكان
في سالف العصر والزمان
كل يوم شهرزاد
طبلوا للأمير !
صفقوا للأمير !
هدئوا من روعه ..
احذروا من غضبه !
أحضروا له ما يريد ..
جهزوا له الجواري والعبيد.
وزينوا بنات المملكة…
لا تتقوّلوا
كمموا كل شيء ماعدا قلمي ..
اخلطوا كل الدماء إلا دمي ..
والحقيقة في فمي ..
سينطق ذات يوم
جدار الأرض….
ويقولُ مالم يقل
ستنطق العيون
كيف تشنقُ الزهور
وتسملُ العيون
في مجالس الكهّان والسادة الكرام؟!