كاظم حميد الزيدي
النافذة
إلى: نيلسن مانديلا
أربعة جدران ترتفع عالياً وتحاصر مربعاً صغيراً من البلاط الأسمنتي فتبدو مثل ثقب في جدارٍ أو تبدو مثل جبٍ عميق.طالما أمتص عصارة الحياة من الأجساد التي تلقى فيه.نافذة صغيرة كأنها ثقب في سماء رصعت جبين أحد الجدران الأربعة, ومن خلالها كان السجين يعيد صياغة علاقته مع العالم الخارجي.عندما جيء به إلى هذه الزنزانة ، أرادوا أن يضعوا بينه وبين الليل والنهار حاجزاً لأنه الوحيد الذي أصر- على الرغم من أنه حمل على ظهره الكثير من السجون والمعتقلات- أن يؤاخي بين الليل والنهار ويجعلهما وجهاً واحداً لعالمٍ جميل. فتسرب إليه من خلال أحساسة المتفاعل مع رطوبة وظلام الزنزانات المتعددة بأنه مع مرور الأيام سيتحول إلى رجل معلب، رجل ميت مثل أسماك( السلمون) داخل علب الصفيح، وعرف أن هذا التحول من رجل إلى سمكة (سلمون) داخل علبة هو ما يريدونه بالضبط. فقهقه عالياً وضرب الجدران بيده واقترب من النافذة وصرخ (اني هنا سأتحول إلى ماردٍ داخل أبريق وسأخرج ذات يومٍ حتماً أثر لمسة من قريب أو غريب ، أما سمكة السلمون هذه فبإمكانكم أن تأكلوها على موائدكم الأنيقة.)
الغيبة
كان يشاطر العائلة الجلوس حول المائدة وينظر إليهم، وفجأة تغير المنظر، اختفت الوجوه لتحل محلها أفواه ، أفواه تلتمع داخلها الأسنان: قواطع تقطع، أنياب ٌ تمزق، وأضراس تطحن بإصرار متواصل كل ما يلقى بداخلها.كان ضجيج المضغ وشرب الماء يطرق على مسمعيه بقوةٍ حتى تحولاً إلى ما يشبه دوي الرعد وهدير الشلالات الكبيرة ، ترك طبقه وأنسحب الى غرفة المكتبة طالباً من زوجته أن توافيه بقدحٍ من الشاي.منذ عشرين عاماً وهو يركض مثل عدائي المسافات الطويلة دون أن يصل إلى شريط النهاية.لا لشيءٍ يحلق بالروح ويرتقي بها إلى ما تصبو إليه، ولكن ليوفر لهذه الأفواه التي تلتمع داخلها الأسنان والتي تطحن بإصرارٍ كل ما يلقى بداخلها لقمة العيش.هذه الكائنات الطفيلية التي تلتصق برقبته منذ أزمان غابرة ، ويبدو أنها مصممة على امتصاص عصارته حتى الرمق الأخير. جلس خلف المكتب. فتح كتاباً، فبدأت الشخصيات تتحرك، تحب، تكره، تتخاصم، تسافر، تقتل، تنتحر،….. كانت تعيش كل لحظةٍ من لحظات حياتها، على مدى هذا العالم الواسع: بمدنه وقراه، أنهاره وبحاره، غاباته وصحاريه، جباله ووديانه كأنها استوعبت وجودها المؤقت فيه، لذلك خلع سترته ودخل الكتاب.عندما دخلت زوجته المكتب بقدح الشاي كان هو قد اختفى مخلفاً فوق الكرسي سترته التي لا تحتوي الا على هويته وبضعة أوراق نقدية.