ثقافية

قصة قصيرة

حين يصرخ الظل

داود سلمان عجاج

كان يعيش صامتاً ورغم تكرار التجاوزات ذاتها مئات المرات، يسرج حصان الوهم، كلمة قيلت بلا مبالاة، ولسعات تهكم، ووعودٌ ذهبت أدراج الرياح، كأنه يحمل قدراً مكتوباً في نظره. كان يبتلعها بذات الصمت ويخفيها في قلبه، وكأنه يحميه من العواصف، بنفس تحيا منزوعةً من أحلامها، معبأة بالخيبات، وذات حائرة بلا قرار بفرح يرفض أن ينام، ويقنع نفسه أن الخطأ ربما يكون منه، وأن مزيدا من الصبر سيعيد للحياة توازنها.

غير أن الصبر طال، حتى صار قيداً يلمع في الظاهر، ويخدش الروح في العمق، وفوق ذلكَ التعلق بأملٍ واهنٍ، وربما لا يمتلك الجرأة لأن يخرج الطاقة المخبأة في داخله كي يبدأ بشيء جديد، فالصمت كما يعتقد سيد العروش، حتى كأنه قد تجاوز السلوك الاحتضاري المُستسلم.

لكن في تلك الليلة، حدث ما لم يحدث من قبل، حيث كان يجلس وحيداً أمام جدار الغرفة، وكانت هناك لهفة غامضة، لم يكن الظلام يخيفه كما اعتاد،بل كأن عينيه أبصرتا فجأة ظلاً آخر، ظلاً يخرج من داخله لا من حوله، ظلاً لم يعد تابعاً للجسد بل متمرداً عليه، وصوت كأنما يأتيه من الماضي البعيد، متخطيا الزمن المحيط به، وشيء عميق بداخله يصرخ:

– كفى.

لم يكن صراخاً مسموعاً، بل كان ارتجافة خفية تسري في أعماقه، كأن جدارا داخليا انهار؛ إذ رأى فجأة العمر مسطورا أمامه. كم مرة ابتسم فيها رغم الخذلان، وكم مرة صدّقَ أن الصبر هو أعمق الحلول وأبقاها، كأنما هو البلسم لكل جرح، والمخرج لكل مأزق.غير أنه عند لحظة الوعي تلك، أدرك أن الصبر، حين يتطاول على الزمن ويطيل عمر الأمل الواهن، لا يعود فضيلة، بل يتحول إلى لعنة متنكرة بوجه الحكمة، تتخفى برداء القوة، بينما في جوهرها هشاشة وانكسار. كذلك كسيد متوج على عروش خاوية، يرفع صولجانه في العلن، لكنه عاجز في السر عن صد الريح، وقيد صدئ يلمع في الظاهر، غير أنه في الباطن ينهش الروح ببطء، ويمتص طاقتها حتى آخر قطرة.

وهكذا كانت الصرخة التي انطلقت في داخله أقرب إلى نشيد فرح تطلبه الروح، لحظة كسب في الإدراك، تمحو عنه وهماً جميلا يضيء كأنه يقين.

تمضي السنون كقوافل عمياء، تحمل على ظهورها أحمال العجز، دون وجهة في عتمة الأزمنة، وكأنها تساق بأقدار صامتة لا تكشف عن أسرارها إلا لمن تجرأ على قول لا.

ففي لحظة الانكسار تلك، رفع رأسه، ورأى في داخله مرآة لم يرها من قبل. انعكس فيها وجهه الحقيقي، وتوقف فجأة عن التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، وكأن تلك المرآة قد انكشفت أمامه بعد طول عتمة، رأى فيها كم كان يُنكر غضبه، يخفي ألمه، ويتصنع الرضا ومن ثم أخذت تتراءى له مقولات الفلاسفة وبقايا من حكايات الجدات، ليتيقن أنَّ تلك اللحظة لم تكن غاضبة ولا انتقامية، بل صافية كالماء بعد عاصفة، نسخة وضعت حدودها بوضوح، لذا وبلا وعي منه قال:

– لا.

كرر القلب طفرته، إذ كان لأول مرة يقولها، وكأنه يفتح نافذة في غرفة مغلقة منذ سنوات. تسارعت دقات قلبه، ليقع بين النشوة الداخلية والخوف، فقد راقت الروح مع انطلاق تلك الكلمة، كلمة بدت وكأنها لم تُقل له فقط، بل للزمن كله، للتاريخ الصامت، ولأصوات ماتت في حلقها الكلمات.وبينما كان يتحسب لما سيقال عنه بعد هذا الصبر الطويل، بعدما حضرت الصور المحفوظة في ذهنه، والخوف من تلك الأشباح، التي تخرج إلى الضوء القابعة في الظلمة الغادرة، التي قد تعيد الأشياء إلى نصابها، إلا أن عقله واجهها بالثبات.

فكيف سيواجهون هذا التحول المفاجئ؟ خاصة ممن اعتادوا على ضعفه، إذ أنهم قد احترفوا في كيفية التلاعب بغضبه وانفعالاته. لكنه أدرك تلك التساؤلات، ليجيب نفسه بصورة الواثق بعدما بدأ يسمع صوته الداخلي بوضوح، الصوت الذي أسكته طويلا تحت ثقل المداراة، فلم يهرب من الأسئلة، بل كانت الإجابة بصوت واضح:

– الوحدة مع الذات أكرم ألف مرة من البقاء مع من لا يراني.

في تلك اللحظة تغير كل شيء، العالم بدا مختلفا، والخوف تراجع مذعورا، وصار شخصا ليس كما كان، فلم يعد خجولاً من إظهار أفكاره، ولا راغباً في حمل أعباء الصمت الموروث. لقد أدرك أن القبول الأعمى يحول الأبناء إلى ضحايا، وأنه لا بد أن يكسر السلسلة، حتى لا يُساق القادمون إلى المصير ذاته.

 وعندئذ جلس هادئاً، وكانت عيناه تتأملان الظل الذي صار صوته. لم يكن بحاجة إلى كثير من الكلام، ولم يعد يهمه أن يسبح خارج المدار، فكما أن الطيور الوديعة تموت سريعاً، فإن الضارية وحدها تعرف كيف تصيد. وفوق ضفاف الجرح الغائر،تتكثف الحكمة جملة واحدة، تختصر الفرح والخذلان، الموت والميلاد:

– حين يصرخ الظل، تولد الذات من جديد.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان