ثقافة شعبية

جبرا ابراهيم جبرا.. الترجمة حين تكون أفقاً للمعرفة

علي حسن الفواز

الترجمة مغامرة محفوفة بالخطورة دائما، ليس لأنها محاولة للاقتراب العميق من الآخر، عبر سرائره، ولغته، بقدر ما أنها خطوة جريئة لمجاورته، والسطو على وجدانه، وربما العبث بقواعد تفكيره، حيث لاتوجد ترجمة بريئة، ولا يوجد مترجم (فروسي) يملك القدرة الباسلة على اقامة مجاورة حيادية بين اللغة والقاموس، إذ تتحول الترجمة في سياق هذه المجاورة الملعونة الى لعبة ماكرة في صناعة الافكار والالغاز، والمعميات..

الترجمة وعيٌ متجاوز في التجسير الى اللغة الأخرى، والى إدراك حمولاتها، وحتى الى سياق تأمين هامش عميق للفهم، إذ لاترجمة بدون فهم، ولا لغة خارج خيار التفكير بها، والتماهي معصورها واستعاراتها..

وهذا مايُعطي للترجمة فعلها في أنْ تكون أفقا للبحث عن المعرفة، وعن اكتشاف الآخر عبر اللغة والفكر، مثلما هي طريق للفتح والاحتلال والسيطرة والتبشير كما يقول دوكلاسروبنسن، وهذا مايعزز أهميتها وخطورتها، وجسارتها في ترسيم حدود واسعة للتواصل والتفاعل مع الآخر المختلف، من خلال الاضطرار للخضوع له كما تقول أدبيات مابعد الكولنيالية، أو من خلال التعرّف على قاموسه وذاكرته ويومياته وتاريخه وسرائر انثربولوجياته..

والترجمة-رغم هذا التوصيف- تحمل معها هواجس التغيّر، والانفتاح، والكشف، إذ تخضع الى  تموضعات سياسية وثقافية واجتماعية وأخلاقية، لأنها تقوم على اسس افتراضية للمواجهة، وبقصديات مختلفة تجمع بين التعرّف والاخضاع، والدخول في ممارسات لها علاقة بالمشروع الحضاري للآخر، حيث المناهج والبرامج والمشاريع والتقانات، وبما يجعل الترجمة مقاربة لستراتيجيات ثقافية وسياسية تهدف  الى مواجهة فرضية السيطرة بشغف المعرفة، وهذا مايجعل الحديث عن(استعمارية) الترجمة نوعا من المغالاة، مثلما هو توصيفها بأنها خيانة لفكر الآخر ولغته، كما يتهمها (البعض) بالضرورة.

إن الترجمة في هذا السياق لاععمة بدون فهم، ولا لغة خارج  تعني محاولة قسرية لفكِّ ارتباط النص الاصلي عن أصوله في التأليف الثقافي والفيللوجي، بقدر ماتعني محاولة في التعرّف العميق عليه، ورغم مايشوب ذلك من تعقيدات وصعوبات وشكوك، فإن الترجمة تظل رهانا ومغامرة، وهذا ما هذا يفترض وجود المترجم النبه، والذي يدرك مسؤولية الفهم والتفسير والنقل، مثلما يفترض وجود الاطار المؤسسي الذي يجعل من فعل الترجمة عملا اخلاقيا وثقافيا وتواصليا، فضلا عن كونه جهازا اداتيا للاقتراب من قاموس الآخر اللساني، والآخر الثقافي، والآخر التاريخي والحضاري والأنثربولوجي..

جبرا ابراهيم جبرا ليس بعيدا عن مقاربة هذه الضرورة، فهو يملك شرعة المترجم المثقف، والعارف، إذ يدرك أهمية أن تكون الترجمة جزءا من الفاعلية الحضارية، وجزءا من عالمية الثقافة ومن انسانيتها، ومن نسيجها اللغوي بحمولاته الاستعارية والتصويرية، أو بفاعلية نقل خطاباتها وافكارها ومعارفها، وحتى في مقاربتها لطبائع وخفايا الصراعات والتحولات التي عاشتها تلك الثقافات، أو ما خلقته حولها من حكايات واساطير، وبطولات، حيث وجد في ترجمات شكسبير لحظته الشخصية للغور في تلك العوالم، والكشف عن صراعاتها الخبئية، وعن انشغالاتها ودلالاتها، والتي تحولت شخصياتها المسرحية فيما بعد الى مجال مفتوح  للدراسات الثقافية والنفسية كما في شخصيات هاملت والملك لير وماكبث وعطيل..

صورة شكسبير في المخيال الثقافي العربي قد تكون من أكثر الصور الباعثة على الجدل، حيث استغرقنا بها كثيرا مع ترجمات جبرا، والتي نقلتنا الى عوالم سحر قصائده وحواراته، وعوالم مدنه، وصراع شخصياته في تراجيدياتها، وفي كوميدياتها وفي غموضها وخداعها وفي موتها، إذ عمد الى أن يغوص في تلك العوالم، بحثا عن روح الإنسان، عن قلقه وهواجسه، عن لحظات ما يعيشه من الضعف والخيانة والغدر والغيرة، وعن حلمه بالخلود، وعن ماهو خفي في سرائر البيوت الملكية، في عواطفها وفي خبثها ورعبها وفي نهاياتها الغرائبية..

ترجمة شكسبير كانت رهاناً على ضرورة المغامرة، وعلى فاعلية أنْ يجد المترجم نفسه أمام ما هو عميق في الثقافات الكبرى، ليس لينقلها الى لغات أخرى فقط، بل لكي يجعل منها أفقا للتعرّف على التاريخ، وعلى الزمن الثقافي وتحولاته، وعلى معرفة الآخر، وهذا أكسب ترجمات جبرا لمسرحياته وسونيتاته عمقاً واهمية استثنائية، إذ يقول( كنت أحياناً أشعر أن الأعمال الإبداعية في اللغات الأخرى تتمتَّع بشحنة ما، يغفل الذين يترجمونها عن نقلها، اهتماماً بالفكر فقط. يعطون العرض دون الجوهر. وهذا ما دفعني إلى ترجمة شكسبير – على كثرة ما تُرجم – لكي أنقل هذا الزخم الموجود في الأصل إلى لغة قادرة وبإحكام حيث لا يقل العمل المترجم ولا يختلف عن الأصل إلا بقدر ما في اللغتين من خلاف في أسرار كل لغة)1

الترجمة بوصفها خيارا فنيا..

ادرك جبرا ابراهيم جبرا أنّ الترجمة مسؤولية، ومغامرة، لكنها أيضا شغف وضرورة، لذا هو لم يغامر نحو ترجمة سونيتات شكسبير بالكامل، لحدسه أنّ هذه الترجمة صعبة من جانب، وأن عليه أن يحافظ عليها بوصفها عملا فنيا، وليس درسا تعليميا، أو تاريخيا. هذا الفهم الفني هو ماجعله ينحاز الى ترجمتها نثرا مع الحفاظ على الطاقة الشعرية والغنائية فيها، فضلا عن انه لم يقم بترجمة كلّ تلك السونيتات، حيث قام بترجمة اربعين منها،لتصدر العام 1983 عن المؤسسة العربية للنشر، ورغم وجود ترجمات عديدة للسونيتات الشكسبيرية،  مثل ترجمة بدر توفيق المصري، وترجمة خليل مطران، وترجمة عبد القادر القط، إلّا أنّ مايميّز ترجمة جبرا  هو حساسيته وخبرته، وتقانته في التعاطي مع متعة اللغة،تأويلا وتصويرا، وتمثلا للروح الشعرية ذات التكوين النثري، حيث الاستغراق في تجليات روحها الغنائية، والحفاظ على بنيتها الدرامية، فأية مقارنة لترجماته مع الترجمات الاخرى سيجد القارئ نفسه أمام فضاء شعري، ولغوي له خصوصيته، له وقعه على توقع القراءة، وهذا ماتحدث به الشاعر عبده وازن وهو يقارن بين ترجمي جبرا وكمال ابو ديب للسونيتات ( ولئن بدا من الصعب المقارنة بين ترجمة جبرا وترجمة كمال أبو ديب نظراً الى اختلاف”السونيتات”المختارة أولا، ثم الى اختلاف مفهوم الترجمة ومقاربة النص الشكسبيري ثانياً، فإن ترجمة أبو ديب بدت وكأنها اضافة الى ترجمة جبرا، شعرية وجمالية وابداعية الا أن من الواضح أن جبرا سعى الى”شعرنة”القصائد، مضفياً لها طابعاً غنائياً، هو كامن فيها أصلاً،فعمد الى حفظ الايقاع الداخلي الذي خبره طويلاً في شعره النثري.

ترجمات جبرا تتبدى من خلال رشاقةعبارته وصورته، ومن تفاعله العميق مع غنائية “السونيتات” واحساسه الحاد بجماليتها ومعرفته بظروفها وأسرارها، حيث كان يدرك نظامها اللغوي، وبنيتها الداخلية القائمة على مبدأي التوالي والمفاجأة. فـ”السونيت”تنطلق من”فكرة”أولى تحملها الأبيات الأربعة أو الرباعية الأولى ثم تتوسع”الفكرة”هذه في الرباعية الثانية ثم تتجدد وربما تنقسم على نفسها في الرباعية الثالثة، على أن تفصح عن”المفاجأة”التي تخفيها في البيتين الأخيرين)2

هذه الترجمة اللافتة تحولت الى أفق ترجمي مفتوح لعديد من الترجمات الأخرى، والتي وجدت في معرفة جبرا بخفايا النصوص التي يترجمها مجالا للتعرّف على المرجعيات النفسية والثقافية وحتى التاريخية التي يحملها النص، لاسيما في السونيتات، والتي بدت وكأنها مغامرة شخصية، أو شغف بعالم يستدعيه للتعبير عن تمثله لفكرة الشعر الغنائي، ولتلاقح هذا الشعر مع النثر والذي كتب منه جبرا ابراهيم جبرا كثيرا من قصائده، حيث بدت فيها الروح الدرامية حاضرة بفجائعها ومفاجآتها، ورغم ماشاب ترجمة تلك السونيتات من إثارة، لاسيما على مستوى اغراقاتها العاطفية المثلية، إلا أنها تحولت الى فارقة شعرية في تاريخ الشعر الانساني، حيث (تعمق جبرا كثيراً في هذه”السونيتات”وفي الظروف القاسية التي كتبها شكسبير خلالها وفي الصراع أو التمزق الذي عاشه سراً، وقد تنازعه حبّان، حب ملؤه الطمأنينة وحب ملؤه اليأس، كما يعبر في”السونيت”الرقم 144، ويقول مطلعها بحسب ترجمة جبرا:”لي حبيبان، حبيب طمأنينة وحبيب يأس/ وكلاهما كروحين يهمسان دوماً/ ملاك الخير منهما فتى ناصع الحسن/ وروح الشر منهما امرأة بلون القتام”. ومعروف تاريخياً أن شكسبير الذي يؤدي دور”الراوي” أو الشاعر في هذه”السونيتات”يتوجه في”غزله”أولاً الى شاب يسميه”فتى”حيناً و”صبياً”حيناً. وقد خصه بمئة وست وعشرين”سونيت”126 تحتل الجزء الأول من الكتاب. ثم يتوجه ثانياً في”غزله”الى سيدة مجهولة يصفها بـ”المرأة الداكنة”أو”السوداء)3

الترجمة والانحياز المعرفي

إن انحياز جبرا ابراهيم جبرا للترجمة الفنية هو انحياز معرفي وجمالي، على مستوى اختيار النص، وعلى مستوى معالجته الترجمية، أو حتى على مستوى ماهو خطابي فيها، فشكسبير يمثل عصرا اتسمّ بالمشاكل والصراعات الكبرى، لكنه اختار جوانبها الخفية، مثلما اتسم بسيادة النزعات الغنائية في الشعر وفي الحكايات وفي سير عوالم البيوتات الملكية، وهذا مايجعل التعاطي مع ترجماته يتطلب نوعا من الحساسية التاريخية والشعرية معا، فعوالم الملك لير، والامير ماكبث، والامير هاملت، والامير عطيل كلها تلتقي عند ثيمة الصراع الخفي بين الحب والكراهية، أو بين الوفاء والخيانة، فهو عمد الى تجريد  هذه الشخصيات من رمزيتها(الاسطورية) ليجعلها جزءا من الصراع الوجودي، ومن سايكوباثيا الضعف والقلق الانساني، حيث تعيش قلق الخوف والفقد والخيانة، وتواجه مصائرها الانسانية في سياق دورها في هذا الصراع الوجودي…

ولعل ترجمته لرواية الصخب والعنف ل(وليم فوكنر) تعدّ من اكثر الاعمال الترجمية اثارة للجدل، فهذه الرواية التركيبية تطلبت مساحة واسعة من المعرفة بالصراع الاهلي الامريكي، وبالتمثلات اللغوية والاشارات التي استعملها فوكنر، وهو ماجعل ترجمة هذه الرواية الى العربية تكتسب اهمية كبرى، ليس في خصوصيتها فقط، ولا حتى في رمزية فوكنر الروائي الامريكي الفائز بجائزة نوبل للآداب، بل بالمهارة التي اتسمت بها هذه الترجمة، والتي جعلتنا نعيش معها لحظات الصراع والتحول والقلق والحب، وكأن جبرا عاش مع فوكنر جزيئات ولحظات يومياته الروائية، وهذا ما اشار اليه في حواره الواسع الذي اجراه معه الشاعر المصري احمد عنتر لمجلة الدوحة القطرية، حيث قال: إن الترجمة (تيسِّر لنا فهم إنجازات الآخرين، وبذلك نستطيع الإفادة من تجربتهم أولاً، ونضع تجربتنا نحن إزاء تجربتهم ثانياً)4

وهو  ما يؤكد شغفه بما هو صعب في الترجمة، على مستوى الاختيارات، أو على مستوى وعيه لفعل الترجمة في التأثير على القارئ، عبر تحفيزه، وادخاله الى عالم الافكار والصراعات، فـ( الترجمة لم تكن يوماً بالنسبة إلى جبرا نقلاً ونسخاً عن لسان آخر، الألسنة في تعدُّدها خليط من تراجع ومبادرات… قلب الحكمة، والتعبير عن الانحطاط، وبما يؤكده عبر نتاجات لا روح فيها. تظل الترجمة إمساكاً بالروح في قدرتها على مشاركة العالم وبشر العالم في الطريقة التي تجعلهم جديرين بسبر أغواره، وتأسيس طرق تفكير وحياة تعمل على تراكم الأروع في المنجز البشري)5

نظرة جبرا ابراهيم جبر للترجمة تلتقي مع طبائع تشكل مرجعياته الادبية واللغوية، فهو درس في جامعة كمبيرج في انكلترا، وتعلّم فيها أصول ومهارات الترجمة من الانكليزية الى العربية، والتي تعني اولا صرامة معرفة اللغة، وفهم وحداتها البنائية والصرفية، والاستعارية من جانب آخر، وأنّ نقل اللغات الاخرى الى اللغة العربية يقترن بالفهم والتأثّر، وليس عبر الانخراط في السياق الوظيفي العام، وهذا ماجعل ترجماته للابداع المكتوب بالانكليزية محدودا وقليلا، لكنه فاعل ومؤثر في وعينا، وفي تعرفنا على الاداب الانسانية الأخرى، فهو ينطلق من عتبة وعي، تجعل من الرغبة في الترجمة هاجسا، وشعورا باللذة، ورغبة بالتواصل، وهو ما اشار اليه- ايضا- في اللقاء الذي اجراه معه الشاعر احمد مصطفى عنتر لمجلة الدوحة قائلا (كنت أحياناً أشعر أن الأعمال الإبداعية في اللغات الأخرى تتمتَّع بشحنة ما، يغفل الذين يترجمونها عن نقلها، اهتماماً بالفكر فقط. يعطون العرض دون الجوهر. وهذا ما دفعني إلى ترجمة شكسبير – على كثرة ما تُرجم – لكي أنقل هذا الزخم الموجود في الأصل إلى لغة قادرة وبإحكام حيث لا يقل العمل المترجم ولا يختلف عن الأصل إلا بقدر ما في اللغتين من خلاف في أسرار كل لغة)600000000000000

1.         مجلة الدوحة/ العدد 4 في 1/ ابريل 1985

2.         عبده وازن/ جريدة الحياة العدد 17103 في 31 /1/2010

3.         المصدر ذاته

4.         مجلة الدوحة/ المصدر مشار اليه سابقا

5.         جعفر الجمري/ جريدة الوسط البحرينية/  في 12/مايو 2017

6.         مجلة الدوحة / المصدر مشار اليه

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان