محمد علي محيي الدين
في بلدة المدحتية الوادعة، إحدى نواحي محافظة بابل، أبصر النور العام 1955 شاعر رقيق الحرف، اسمه طارق حسين، الذي رسم اسمه في سجلات الشعر الشعبي والأدب العراقي الحديث، بثبات وموهبة مبكرة.
نشأ طارق في كنف بيئة بسيطة، أنهى دراسته الإعدادية في بلدته، لكنه اختار دربًا مختلفًا منذ سنواته الأولى، إذ كانت المدرسة الأولى التي أسرته هي الأدب. ولعل بواكير عشقه للكلمة تجلت حين هام بأشعار مظفر النواب، وشاكر السماوي، وعريان السيد خلف، وغيرهم من فرسان القصيدة الشعبية الحديثة، حتى استبطنت وجدانه وتشكّلت في داخله ذائقة شعرية ناضجة.
بدأ مشواره الأدبي مع قصائد الأطفال، إذ حفظ معظم أشعار الشاعر كاظم الرويعي، وهضمها عن ظهر قلب، ومنها انطلقت أولى محاولاته في النشر سنة 1972 في مجلة “المزمار” للأطفال. وفي السنة التي تلتها، كتب أول قصيدة شعبية بعنوان “آنه منى” نشرت في جريدة “المجتمع”، وكانت مرثية للشهيد الشيوعي شاكر محمود، تنطق بصوت ابنته الصغيرة (منى)، فكان صداها الأمني مدوّياً، حتى أن محرر الصفحة عادل العرداوي تعرض للمساءلة آنذاك.
ما لبث أن تألق مجددًا العام 1974 حين نشرت له جريدة “الراصد” قصيدة بعنوان “تصورات”، كتبها على نمط التفعيلة، وقد قدّم لها الناقد الراحل عبد الجبار عباس مبشرًا بشاعر واعد. ثم جاءت قصيدته “رسالتين للوطن” المنشورة في “طريق الشعب” العام 1975، لتؤدي إلى اعتقاله في الشعبة الخامسة، إذ تزامن نشرها مع التحاقه بالخدمة العسكرية.
لم يكن اسم طارق حسين حاضرًا باسمه الحقيقي في البداية، إذ اتخذ من اسم “أبو زيد” توقيعًا لمعظم كتاباته، وكان له حضور في الصحف العراقية ومجلة “الهدف” الفلسطينية، التي نشرت له مناجاة شعرية إلى الشاعر الكبير مظفر النواب بعنوان “رسالة إلى صديق”.
ولم تقتصر موهبته على القصيدة، بل امتدت إلى مجال الأغنية، حيث فاز العام 1975 بالجائزة الثالثة عن أغنية للأطفال “يا عيني يا كمرنه”، وفي السنة التالية حاز الجائزة الثانية عن أغنية “المدرسة”. وعندما انتقل إلى بغداد العام 1977، انفتح له أفق واسع، فعاشر أعلام القصيدة الشعبية مثل طارق ياسين، شاكر السماوي، يعرب الزبيدي، وغيرهم. وتوطدت علاقته بالصحفي الشاعر عادل العرداوي، وبدعم من الشهيد إسماعيل خليل بدأ يكتب في الصحافة، لينشر في الصفحة الأخيرة من جريدة “التآخي”.
انتقل إلى مركز مدينة الحلة العام 1980، وعمل في المسرح مع المخرج حسين عبد اليمة، لكنه اضطر إلى تركه العام 1983 بسبب مضايقات أمنية. في حقل الأغنية، لحّن له عدي صاحب عبيد العام 1989 أغنيتين وطنيتين، إحداهما عن المرأة، وأخرى عن الأرض والفلاح. كما لحّن له الفنان محمد جواد أموري أغنية “وداعة الله”، وغناها فيما بعد الفنان سعد العواد.
كذلك، لحن له الفنان ماجد الشامي أغنية “حلم” وغناها جمال كريم، ثم أعادها الفنان الشاب زيدون حسين، ووزعها موسيقيًا الفنان كريم وصفي، فحصدت شهرة واسعة حتى اعتمدتها قناة “ريكا” مفتتحًا لبثها.
تناوله العديد من النقاد والأدباء، فكتب عنه الصحفي عادل العرداوي، وخصه عريان السيد خلف بملف في جريدة “الزمن”، كما كتب عنه حامد الهيتي دراستين نقديتين، وكتب عنه ريسان الخزعلي، وشكر حاجم الصالحي، وترجم له عبد الرضا عوض في كتابيه عن تاريخ المدحتية والشوملي، كما أدرجه صباح المرزوك في موسوعة أعلام حليون.
بعد العام2003 عمل محررًا في مجلة “مجلتي” ومسؤول القسم الشعري في دار ثقافة الأطفال، وشارك في مؤتمراتها المحلية والدولية، وحاز جوائز تقديرية، منها جائزة عن أوبريت “القمر والحرية”، وجائزة أفضل نص شعري مدرسي من وزارة الثقافة، وجائزة النزاهة، وجائزة أحمد المهنا.
عمل مراسلاً لجريدة “طريق الشعب” منذ 2005، وخصص له فيها زاوية أسبوعية بعنوان “وجوه من ساحة التحرير” لدعم الحراك الشعبي. كما كان عضواً في نقابة الصحفيين العراقيين قبل أن يُفصل منها تعسفيًا، وعضواً في الاتحاد العام للأدباء، وجمعية الشعراء الشعبيين، وكان من مؤسسي اتحاد الشعراء الشعبيين، وسكرتير فرعه في بابل بعد سقوط النظام.
خاض تجربته الشعرية ضمن ثلاث مراحل: بزوغ الموهبة، ثم تحرره من التقليد، وصولاً إلى ترسيخ خصوصيته الفنية. وقصيدته “رسالة إلى صديق” تجسد هذا التطور وليست مجرد بوح شعري، بل مرآة لوعي متشكل، فيها يقول:
آنه ملفلف .. وأنته ملفلف وجرح البينه بيا كي ينشف
عمري وعمـــرك ســـــورة ماي لفينه الدنيه وما نلتف
حط چفوفك فوگ چفوفي
إنه الشــاطي .. وأنته الماي اليروي جروفي
بيني وبينك حايط عالي وبين الثــالث سيــف إوالي
وبين الرابع سر مذبوح وبين الخامس.. طفله تنوح
أصرخ !..لو تعبر وياي ؟
— لاما أعبر ..!..راح أرحل وأمشي إبلا راي
وشتگول أنت بجمرة صـــيفي .. وبرد إشتاي
يل عابر ودروبك سلة ماظلت كونه إبلا فله
بالك تغتر.. موش أنته أكبر… جرحك محد غيري يشله
بهذا المسار الحافل، يُعد طارق حسين صوتًا متفرّدًا، جمع بين القصيدة والنقد، بين الموهبة والتزام الموقف، وساهم في إثراء الساحة الأدبية العراقية برؤية شعرية ناضجة، لم تركن يومًا إلى السكون.
وقصيدته (الصوت والريح ) تمثل ثمرة البدايات الأولى لتكونه الشعري وتبرز من خلالها التطورات التي رافقت مسيرته الشعرية:
رفيجك .. رفيجك .. رفيجك ..
گلبي كل عمره رفيجك
تحيا ..أحيا ..تموت ..أموت
عيب أظل بغيبتك شاعر سكوت
أسكت ..جروحي تهيجني وأصيح
أسكت .. الدنيه تحيرني وأصيح
ريح ..ريح ..ريح
الدنيه ريح …الناس ريح ..الوكت ريح
وروحي كاغد.. هلبت يحط أعله گاع ويستريح
وفي مرحلة الثمانينيات وما أفرزت من ظروف قاهرة جعلت وعيه يتفتح على آفاق جديدة يرسم من خلالها حوارات مفعمة بالتساؤل والبحث عن الحقيقة ولعلها امتداد لتساؤلات تزاحمت في خياله، أو مناوشات حدثت بين شعراء كان له رأيه فيها، يقول في قصيدته (حوار الأضداد):
آخ .. لوتدري شكثر تعبان .. وك بيه تعب ماينتهي يفلان
متگلي شوكت ترتاح ؟ ياطير المـــــــحبة الما لگاله جناح
أنسه الراح
وهجر كل شبابيچ المحبة الما لهن مفتاح …ورتاح ..
أظل تعبان
مادامت عيوني أتميز الألوان
ومادام بأذاني يطـنطن الذبان
ومــا دام اليضــــدني إنسان
وآنه إنســان .. أظــل تعبان
ومرحلة التسعينيات لها خصوصيتها على المستوى العام والشخصي، فالتغيير المجتمعي خلق أجواء جديدة مغايرة لمألوف العراقيين أتسمت بانعدام القيم وتغير النفوس ولكن النفوس الكريمة حافظت على نقائها، وفي (ملاحظاته الثلاث) يتحرك ضمن هذه الأطر منها:
— الى عريان السيد خلف
طبع بينه
من نخــاوي ما نخون
ولا تشت بينه الظنون
ولا ولا نقــــبل نكون
غير معـــبر للمـحبة
ومايهمـنه اليعبرون
وقصيدته (الأجوبة) فيها ما فيها من الإشارات والتلميحات التي تخفي في ثناياها أسئلة طويلة عن إجابات تقاصرت خطاها فلم تصل الى حافة المسكوت عنه وأفصحت عن تجلياتها بضربات هادئة لها آثارها الظاهرة في ثناياها منها:
الى صاحبي الذي لا يرى
إلي عيـــــن ..وألك عين
وعين المابچت للحين … لفها البين !
إلي راس وألك راس
وراس الما يهم بالناس …ريته بفاس
إلي گف ..وألك گف
وگف ألي وله وماعف … ما ينظف !
إلي روح ..وألك روح
وروح الماسمت بجروح …خلها تروح !
الي عيون وجبيلي عيــون همله وأبد ماشوف عنده الشوف همله
اليهم بالناس هــم بالـــناس همله تــرك بـــس الدخـــيل إبلا هوية
أللي راس إمهموم وراس نداي ولا يــوم السمعني وجـاب نداي
يظل دمعي علــى الخدين نداي الى يــوم اجتثاث أهــل الرديه
والـ(هواجس) لها مشروعيتها في التسلل إلى ما هو محظور والشاعر بما يتملك من قدرات على التلويح دون الأظهر والترميز دون الإشهار يستطيع أن يأخذ طريقه في الكلام ليتحدث بصوت عال ومن خلال رموز إيحائية عن طاغوت وضع اللواصق على الشفاه لتتوقف الألسن عن مقاربة الواقع والإشارة إلى الحقيقة، منها:
الجدار الهش .. تآكل من تحت
وأنته بعدك منتچي
الشمس مهره تتثاوب ع الرصيف
وأنته بأقصى الزاوية تسب الظلام
ويناجي أليفه وسميره الشاعر والناقد ريسان الخزعلي من خلال قصيدته (وين تروح ..!) فتتلاحق الصور لترسم لوحة فيها كثير مما لم يظهر لمصاب بعمى الألوان نقرأ فيها الحزن والامل والترقب وتوسم الآتي:
وين تروح
والدنية إگصفت بالروح
يافارس حلم مفقود
موسهلة الشمس ..شتلوح ..!!
ظل بين السمه والگاع
بلچن من يجي الطوفان
نتلاگه بسفينة نوح
وتجليات طارق حسين حافلة بمضامين زاخرة بألوان متباينة، ألوان تجد فيها تجاذبا يلقي بظلاله بين الكلمات، و(حاله ) واحدة من حالات تناهبت أفكاره فيقول:
بركن ..، .. من أركان گهوة ( حسن عجمي)
إگعدت وحدي
چانت براسي قصيدة
تلح علي … عفت راسي
ورحت أدور عالقصيدة
إلگيت راسي إبين رجلين الشيوخ
سالم إلا من القصيدة..!
وحزنه على الطريقة العراقية حزن صاخب يضرب في حنايا النفس لتخرج الحشرجات المليئة بالألم الدفين، و(حزن عراقي ) واحدة من الصور التي رسمها بفرشاة روحه فجاءت صادقة ناطقة مفعمة بأنين مضرج بآلام حزينة:
بيه حـــزن ..موحزن
حتى الله بــي ممتحن
من سومــري البابلي
وآنه وسؤالــــي نون
وقيثاري صاغ اللحن
ع الآه ..مو ع الإذن
تاليها مـــوراح أجن ..!
هلبت إمـبشر يجي
ويگلي : عفيه إستچن .!