ثقافة شعبية

الوطن .. أجمل المنافي عند الشاعر سعد الشريفي

كاظم السيد علي 

  

من بين تلك البيوت الغافية على الفرات وبساتين النخيل المتهدل على جرف النهر الخالد ” شط الحلة ” كجدائل الريفيات الجميلات وفي الهاشمية وتلك الاجواء الرومانسية بزغ ذلك الوجه الاسمر سعد الشريفي بنقاء وعفوية يكتب الشعر الشعبي والفصيح معا ، مستمدا ذلك من المعاناة السياسية والاجتماعية وعذابات تلك السنين ولانه التعبير الصادق عن احاسيس الناس من عمال وفلاحين وفقراء .

كان الشريفي مجسدا لاحلامهم وافكارهم كل هذه قد اثرت في تفكير الشاعر وفي ثقافته وشعره تأثيرا عميقا جدا ، والتي قد تعني وتشكل رمزا ومعنى يمثل جانبا مهما انه مبعث تألقه  وإلهامه ، هذا ماوجدته عند الشاعر في اغلب قصائده …

مشه طولي يحلو الطول وياك 

وعلى ضيم السنين العين بالعين 

التعب كلما كثر اتباهه بهواك 

واصبر الصبر بي وصبرك اسنين 

تعلمنه المحنه ابطيب ملكاك 

يبو حلو الغناوي وصوت تلحين 

يوازين العمر بالشيب وتناك 

مثل كل اليتاني اشتاله بالطين 

حبيب وانه ادري الناس تلكاك 

شمس بعناد كلمن رادك اتغيب 

يلاحباب اشكثر رادونه افراك 

يظل مابيني ومابينكم طيب 

ناهيك من مشاركته في مهرجان الشعر الشعبي الذي اقيم في الحلة مع بدأ الحملة الدموية لاجتثاث العناصر الوطنية حدثني  الشاعر علي الشباني عن تلك المشاركة : كنا في قاعة التربية في مدينة الحلة فدعيت انا والشاعر سعد الشريفي في هذا المهرجان ، عندما نهض سعد ليقرأ قصيدته الجريئة عن انتفاضة ( منعسر الرشيد ) ضد الفاشية العفلقية العام 1963 بشجاعة الجندي الثائر حسن سريع وريادته النقية ، انه لشاعر جريء وقف من خلال عتبة السبعينيات الساكنة شتم المهادنة والتعسف وصمت المنابر ثم اعلن بصوت ساطع حقيقة المؤمرة المتداخلة على هذا الوطن العريق . ويواصل الشباني حيثه قائلا : بعدها انهى الشريفي قصيدته واختفى كنا نعتقد انهم اخذوه وغيبوه .. للموت وللعذاب ولكن بعد فترة عند لقائي بالكاتب والشاعر كاظم السيد علي اخبرني بأنه على قيد الحياة ومازال يعيش الغربة الكاوية في “هولندا ” ففرحت كثيرا بوجود ذلك الشاعر الشيوعي الجريء .

هكذا كان سعد الشريفي متحديا ازلام النظام حتى بصقهم في عقر دارهم ، فأخذ بشتائم الاستنكار لما اقترفه النظام الفاشي ضد الانتفاضة الباسلة بقصيدته الثورية ضد اعداء الحرية ، هكذا كان الشريفي سعد صادقا ، اراد ان يروي ضمأه برغم الازمة الكبيرة التي يمر بها ليكاد يعبر عن واقعه بالذات، وعن واقع بعض الناس كما أنه يحمل محنته ويواجه بها النظام الدكتاتوري القذر : 

يوصفونك شمس ومحنه بالكاع 

ومن حناك تشري الناس صوغات 

الكصيبه البيك ماتنشره وتنباع 

تفي ّ اجروحي لوكثرن الطبرات 

اشد كلبي اعلى گلبك وأوكف اشراع 

لون شافت اعيونك سمه العازات 

المحنه البين گلبي وكلبك اطباع 

وانه بعازة اطباع الطيب الذات 

سلاني افراگم وتباه بالجان 

وجنت انه أباري الكفل والنيب 

يلحباب اشكثير رادونه افراك 

يظل مابين ومابينكم طيب 

وفعلا شد قلبه ولاجل ذلك الطيب اختفى ، قبل ان تلتهمه اقبيتهم المظلمة ليواجه العذاب وثم الموت ، لايستطيع العيش ويكتب ويبدع والاغلال تكبله من كل جانب في حياته اليومية فقبل ان يسيطر على ذهنه خطاب الجهلة والظلامية ، هجر الوطن ، ليس  بمحض ارادته ، وانما نتيجة للكبت والرقيب والقسوة والمظلومية والهيمنة والتسلط واكثر من هذا الغاء الرأي والرأي الآخر التي كان يلاقيها من قبل عصابات النظام الدموي المقيت ، رحل خارج السرب ليبحث عن حرية الرأي والكلمة الشريفة ، بعد ان ذبحت على يد عصابات الفاشيست .

توارى عن الانظار حتى استقر في هولندا منذ منتصف الثمانينيات وحتى لحظة كتابة هذا الموضوع ، برغم كل هذا وبرغم نار الغربة الكاوية في داخله ، لكنه لم ينسَ وطنه ورفاقه والاحبة والحزب فأخذ يناجيهم من منفاه خارج الوطن .والوطن بالنسبة له ( اجمل المنافي ) هذا ماكتبه في اخر رسالة بعثها لي بعد عودته القصيرة الى ارض الوطن  :

 حبيناك …

بيت وبستان وناطور 

واشعار ونفحات عطور 

تينه وبلبل ..

وعاشگ شاف الدنيه اطيور 

اشما رادوا بالمحنه انعيفك 

وانغمض العين وننساك 

حبيناك 

فسعد الشريفي عاشق للحياة والتجديد والابداع في غربته الموحشة القاسية ، لقد كان يستريح في ظلها ، متأملاً بافكارها وتقاليدها لكنها عنده ( احلى من العسل )  لانها اقل عذابا وقسوة ووحشية مما عاشه في وطنه وتحت وطأة الطغاة . لكنه حافظ على عراقيته وبقي  امام عينيه وفي كل جوارحه وطنا كبيرا هو العراق بقي يناجيه برغم الاكتئاب .. الذي يخيم عليه في منفاه لم ينسَ بغداد الحبيبة ودجلة ومياهها ،  وتلك الاجواء الساحرة ونفحات الف ليلة وليلة ، التي كانت  يستنشقها كل عراقي ، وتولع بجمالها واكتوى بنار حبها طوال السنين :

نحلم .. مثل ماتحلم عيون الاطفال بشي 

تاخذنه المراكب على دجلة ..

والطيور ادور بينا اشواكها ..

جناحات بيض ..

والنحل يوكف على الجرفين..

 بألغازه فرح محتام 

وعلى الصوبين بغداد الحبيبة اتلمن بالضي 

نحلم .. نحلم نلتقي بحبابنه بكل حي 

وفعلا تحقق الحلم الذي كان يحلم به الشريفي وكل المثقفين الذين طمر مواهبهم اللامعة في سماء الثقافة العراقية الذين لم يركعوا الى مهندس (المقابر الجماعية ) وعدم تسخير ابداعاتهم الادبية والفنية الى تمجد نظامه الاجرامي ، الحلم الذي راودهم في بلدان اللجوء الاوربية وغيرها .

لقد تحقق بعد الخلاص من سلطة الدكتاتورية وعصابات النظام الدموي الذي لايعرف سوى ثقافة المقابر والتصفيات الجسدية والاعتقالات للمناضلين التقدميين ، النظام الذي دمر الثقافة وخرب مفهومها .

طوبى لسعد الشريفي ، لتحقيق حلمه الذي كان يحلم به مثلما تحلم عيون الاطفال . 

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان