احمد الشيخ ماجد
زخرت مدينة الديوانية بطاقات إبداعيّة هائلة، وفي كافة المجالات الأدبية، والفنية، والشعرية الخ.. وعلى صعيد الشعر الشعبي، فقد برز من المدينة اسماءً لامعة في سماء الادب الشعبي، ومنهم شاكر السماوي، وكاظم خبط، وصاحب الضويري، والأخير قوبل بإجحاف مع الأسف، ولم تحظ تجربته باهتمام، إلاّ قليلا.. واردنا هنا ان نسلط الضوء على بعض إبداعه، وذكر القليل من سيرته الحافلة بالعطاء الشعري الذي لا ينضب..
لا تكاد تنتهي من قراءة شعر “الضويري” حتى تتيقن انكَ امام عبقرية، وتجربة جديدة في الشعر الشعبي العراقي، تقف امامها بذهول لأنها تتسم بعمق المعنى، والدقة في استخدام المفردة الشعبيّة، وصياغة الجمل بطريقة سرديّة تجذب المتلقي، وتداعب مشاعره. ذلك إنها تجربة زاخرة بسحر الكلمة، وقوّة الحضور الشعري.
ولد شاعرنا في مدينة الديوانية سنة (1947) ولا نعلم بالضبط متى بدأ مسيرته الشعرية، ولكن قصيدة “متعوب” تعتبر من بواكير شعره كما يقول الناقد العراقي (ثامر الحاج امين) ويقول فيها : (بدت بيّه بلاوي اتعارج الحيل، واهو ياحيل ظل وبيه اماطل، لون وكتي اجاني امشرعب الخيل، ارد أضحك وأكولن وكتي جاهل!، عفة ﮔلبي اشحمل لوعات وشال، مصايب سود من سود الليالي!). عند قراءة هذه القصيدة يتأكد القارئ انه امام شاعر متدفق، عاش حياةً ملؤها الإحساس الحاد بنفسه، واختلاجاته في قلبه، وبما ينبض به المجتمع، والناس من حوله. فشعره يفيض بالتغزل، والفرح، والتغني بالحبيب احياناً، ويفيض تارة اخرى بالحزن والوجع والألم الدافق العميق، وهذا ماتضج به معظم قصائده، فهو يقول في قصيدة “متعوب” : (يفر بيّه الوكت فرّ المحاﭽيل، وشمرني ابعيد ببحور المشاكل، واخذني الروج عَتْ وحدّر السيل، يلن ﭽفي غِدَه من الفوج عاطل، يدولبني الزمان شلون ماراد، وأنه امسّلم رسنها امطاوع الـﮕود، الشرك لولف يبويه اعلة بن الاجواد، يسـﭽـّن واليصير ايصير ويهود، نشف ريجي وادور بلـﭽـي موراد، لعودي وماهو ظنّه ايخضر العود!). ولا ريب، اننا اثناء قراءتنا هذه الأبيات نشعر بوخز الألم في صدر الضويري، فقد بقي يدور به الزمن، ويدخله في مشاكل كبيرة، تنهك القوى، وتفصم الظهر، فقد “نشف ريجه” بسببها، وغدا كفه واقفاً لا يستطيع تحريكه، ونجد في هذه الأبيات نبرة اليأس تبدو واضحة، فهو يرى ان الحياة تبقى مقفرة، والعمر فيها سراب، لا يظن سيأتي فيها يوم ويجني ثمارها، وفي خضم هذه الهموم، لم يجد امامه ما ينّفس عنه سوى شعره، فأخذ يكتب ابياتاً مشجية، تصور ألماً حقيقياً، ولأن “صاحب” كان حادّ الحس، يجعل ابياته تكوي من يقرأها، وتجعله يرى الألم في قلبه، ويشعر به من اعماقه : (الماي شال تراب لو مر بالتراب، ولو جره بين الصخر كلش يطيّب، إحنه مثل الماي صفانا العذاب، ولو شرب من ماينه معلعل يطيب، امتحّنه سنينه مية امتحان، وماعرفنه شتمتحنه سنينه!). واستخدامه للماء كوسيلة للتعبير عن آلامه، كان موفقاً بهِ جداً، فهي صورة فنية عظيمة، وتكرار جميل، فهو يقول : إنه صافٍ كما يصفي الماء كل شيء يمر عليه، ولكن ليس الماء من قام بتصفيته، وإنما العذاب، وهذا يدل على قوّة الألم في نفسه، ومدى تأثيره عليه، وكل هذه الأبيات كانت صورة جلية للحزن العميق، واللوعة التي تكوي الفؤاد، والألفاظ التي تتفجّر بالمعاني المؤثّرة، والصور الموحية، فهو على الرغم من جراحه، وهمومه، لكن الذي يشرب من مائه يروى، وتطيب نفسه. فأحزانه، وعتمة الحياة التي يعيشها، لا تمنع طيبته أبداً، فهي تبقى علاجاً، وشفاءً للعليل، فهو مثل الماء، ينّقي، ويطهر كل إنسان، والناس تلجأ إليه دائماً، ولا تستغني عنه. وهذا بناء فني خلاق يتمتع به صاحب الضويري ذلك الشاعر الذي عاش حياته بقلب حزين يئن من ايامه، وسنيّ عمره، فهو يتساءل عنها بأبيات جميلة، يقول فيها :
(نغطها ساعه والعقل عند العنان، وساعه بظهور الليالي تغيرنه، مدري إحنه ندير دولاب الزمان، مدري دولاب الزمان يديرنه!). وهذا تساؤل مؤلم، وهو : ألا ينبغي بنا كبشر، ان نتحكم في حياتنا، ونختار ما نصبو إليه، أم ان الزمن يقف ورائنا، ويتحكم في كل مفاصل حياتنا؟ هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ لماذا لا يتركنا الزمن نفعل ما نشاء، وما نحلم به؟. وهذا يدل على الكبت، والحرمان في صدر شاعرنا، فقد اتخذ الضويري شعره كوسيلة للتعبير عن آلامه وأحزانه وأشجانه، وجاءت قصائده مهللة بدموع الحزن، والألم الذي ينتاب الشاعر، معبرة عن عاطفة صادقة، ومشاعر مرهفة، رسمها بحس جمالي مقتدر : (جره بيّه الألم مجره المرازيب، وشبْ وجاغ ﮔلبي من الطلايب، وبـﮕـه عمري حماده وبس عراجيب، وﮔصور الامل صارت خرايب، وهذيج الروح دهله وما زرع طيب، بيهه من النودهم والـﮕرايب، ﭽـا هذا العمر منبت عواجيل، والوادمْ عليهه الريع حايل، الوادم موش ذولاك الرياجيل، التظن بيهم يعجرون المراجل!). نجد في هذه الأبيات نبرة التشاؤم، واليأس من وجود الأمل في هذه الدنيا، فأن “الألم” يعيش مع الضويري، ويجري عليه كما تتدفق مياه الشلالات فوق جروف الصخر. وكذلك يقول ان قلبه يقطر ألماً جراء المشاكل الاجتماعية المتكررة، والتي اعتاد عليها، وشاب قلبه بسببها، وبقي الشاعر ظاهراً للناس في جسده فقط، ولكنهم لا يعلمون ما يضمر وما يخفي، فأن الأمل قد ضاع عنده، والناس ليسوا كما كانوا، وهو دائماً ثائر على الافعال الاجتماعية، فمن يتأمل في شعر الضويري يجد ان حزنه يتحوّل من حال إلى حال، فتارة تجده يفصح عن آلامه الشخصية، ومرّة تجده يشكو من الامراض الاجتماعية المتدنية، التي تخرج من صديق أو حبيب أو ما شابه، وبذلك تغدو همومه ومشاكله بسبب الامراض التي يحملها الإنسان في داخله، فتتفجر في “الضويري” ينابيع إنسانية عظيمة شأنها ان تفتق خياله، وتنزلق به إلى المجال الواسع من الحياة البشرية، ليعرض القضايا السخيفة التي يفعلها الإنسان مع اخيه الإنسان، وهو بأفعاله، يبرهن على ان الضمير قد مات، ولم يبقى منه إلا اسمه، وان الإنسان الذي كان ينضح قيما نزيهة ونبيلة قد مات، وقد ذهب كل شيء معه، حتى شرفه الذي يفترض ان لايتغيّر مع مسار السنين، ذهب، وبقي فقط للتغني به رياءً وكذبا، : (ﮔطره مهي يا صاحبي مو نهر، حتى النهر ذاك الجره ما جره، اعبر ولو ماي الضماير ﮔصر، بكيفك ولا تنشد على امعّبره، أعبر مثل ما عبروا عله الشرف، دنيه وغده بيهه الشرف ﮔنطره!، وعطبه لون شريان ﮔلبك نزف، ولا تنحمس رد للغمد خنجره، أعبر ولك ماي الضماير ﮔصر، تدري الضمير بيا وجه ينكره!؟). وهنا تتضح اوجاع الضويري وآلامه من المجتمع، فحتى الشرف، اصبح من الصعب ان يهتدي إليه احد، أو يراه في الناس. وهنا تطغي موجات اليأس طغياناً جارفاً على الضويري، وهو دائماً يشكو من الزمن، ومن الجيل الذي يعيش فيه، ولا ادري ماسبب هذا، هل هو جراء رؤية النفس برؤية مثالية جداً؟ ام انه كان واقعي في حكمه، فقد جاءت قصائده في الثمانينيات من القرن المنصرم، وكانت هذه الحقبة ذات تأثير بالغ على المجتمع، فقد بقيت الحرب لا تأكل البشر فقط، وإنما تلتهم القيم، والمبادئ، وحتى الشرف! ولعل الضويري اراد ان يقول ان الناس ماتت قلوبهم فعلاً، وتحولوا إلى وحوش كاسرة في نظره : (أسهر والدموع مرافجه الليل، ولا صاحب يشوف إدموعنه تهل، الرفاﮔـه ويارفيـج الهمـك إيشيــل، اهل هالجيل عدوان وعــــواذل!) وهذا اعتراف صريح يفصح به الضويري، وبوح صادق خرج من أعماقه المعذبة مع نفسه وأهله ومجتمعه. فهناك رافد آخر من روافد أحزانه وهمومه المتراكمة فوق كاهله، وهو ابناء “الجيل” الذين يعيش معهم، والاصدقاء الذين يفتقدهم دائماً، ويئن من بعدهم، وغيابهم الابدي عنه. فلا يوجد صديق تسر الروح به، ويفرح القلب فيه، فاليأس من الناس كان يتغلب عليه، وينظر إلى الناس دائما اعداء، ولايأمن فيهم أبدا، وهو يعلل هذا بأبيات جميلة، وعميقة بمضمونها، وتفصح عن مدى ألمه من المجتمع : (اني دمعي واللبن والليل ذاك، تالي حسوة ماي ماتنطينه، يوم جانت طافحة بميهه لسماك، واحنه مات من العطش جالينه، يل شتلتك جابني الضيم لثراك، ولن شجركم مايفيي علينه، إحنه زودك يا ألف سودة بكراك، يل حلال بطنك السجينه!). وهذا تبرير واضح، وجلي فهو يذرف الدمعة تلو الاخرى على من يحب، وبالتالي يبخل عليه بقطرة ماء، ومفردة (جالي) التي يأتي بها، كانت معبرة تعبيراً قاسٍ، فهي تستخدم بالريف، ومعناها بالعراقي “جرف الشط” وهو يعاتب بها عتاباً شديداً، ولك ان تتخيّل حالته، وهو يصف الماء، وكأنه قد وصل إلى السماء، ولم يعطى منه قطرة واحدة، ليروي بها جدب الروح، ويباس الارض الذي يمرّ به، فكانت هذه القصيدة تصوّر لوعة حقيقية، يصرخ بها صاحب من خلال ابياته، وليس هذا غريب عنه، هو الذي يصوغ اروع العبارات بألفاظ شعرية موحية ومشعة، وهذا ليس معناه ان قوة الالفاظ تتغلب على شعره، وبذلك يضعف الجانب النفسي فيه، فالاحساس، والشعور واضحاً في قصائده فهو الشاعر الذي يقبض على جمرة الشعر الملتهبة ثم يدعها تتأجج، فيعيد القبض عليها من جديد، انه الشاعر العميق الذي ينكتب به الشعر، ويحمل أحزانه وآلامه في قصائده التي لاتفارق ذاكرة القارئ، فهي تحرك مشاعره لما لها من وقع يلتمس القارئ صدقها فيه، واللوعة في اختيار مفرداتها : (الدنيا هاي طباعها اطباع الجراد، المايخلي السنبل يطگ عوده، واااه يگلبي يلوگلك لبس السواد، والوكت كل يوم يظهر موده!) وفي هذا يسيطر اليأس على الضويري، فهو لايرى لباسا غير السواد يليق به، وبقلبه الذي تحمل اصنافاً من الهموم والعذاب، فمع تقلبات الدهر، وتحولاته المستمرة، كان من المفترض ان يتغيّر حال الضويري، ولكن السواد يأبى ان يتركه وشأنه، فهو لباسه الذي تعوّد عليه في هذه الدنيا، فكان لا يكتم أحزانه ويأسه ونظرته السوداوية إلى هذه الحياة، على الرغم من انه احيانا يتوخى الحذر من الإفصاح بها، خوفاً من حيرة السامع، وعدم تحمله لهموم “الضويري” وجروحه الغائرة، والتي بدأت معه منذ صباه، ونعومة أظفاره : لعمر حايط تمايل وارتجه وطاح يا روح التغني اخلافه يا روح! ولون نريد والله نسولف اسرار جان عقولكم ظلت حياره!.








