الجــزء الاول
د. حسين السرمك
يبدأ الإفصاح الأنثوي الحي في قصيدة “حجام البريس” من خلال ازدحام الخطاب بالمفردات الأمومية وبالعتاب المُحب الأخّاذ .. الذي يتسع كموجات صادمة – وبالمناسبة فإن قصائد مظفر ككائن مائي مفعمة برشاقة اتساع الموجات المائية حين نرمي حجرا في ماء النهر ، لكن ليس في مركزه بل قريبا من شاطئه . وتتكرّر هذه الظاهرة حين يتكرر حرف “الحاء” بحرقته المؤصلة الساخنة التي تلهب حنجرة الروح في عمقها الذي يسخن نياط النفس التي لا تستطيع نسيان جرعة الحليب الوجودية المنعمة .. ولكن الأهم هو أن حرف “العين” كحرف روي يقف من جديد . وهنا تبدو زفرة النقمة مستكملة من خلال نفثة الآه الحارقة كأنها تبغي تحقيق الخلاص . وهذه الحرقة تتأكد من خلال التناوب الخلّاق الذي تشهده الأبيات الأخرى بين حرفين يجمعهما التوليد النغمي الموسيقي ، لكن لم يحصل على يدي أحد من شعراء العامية أن يوظف هذا التناوب لتجسيد المضمون المحتدم “حرفيّا ” ، تجد هذا في تناوب حرفي “الحاء” و”الجيم” في كلمات متعاقبة مثل : جرحها والجرح والحليب والحچي :
أگل للروح تنسيهم ؟
تدنج راسها
وتِسكِت
حليب البيها مانعها
كل روح ومراضعها
كل إيد وأصابعها
كل روح وجرحها ، الجرح ما ينلام
يا معودين أهلنه
يلحچيكم
يالنشامه
حزام ) أو : ( نبگ حچام
والحاجب نسر فارش جناحينه
بوكاحه يطير )
أو توالي مفردات فيها حروف : الطاء والضاد والصاد والظاء :
(لگطها ابساع يالوحدچ شريفة
وبيّت الضيم بزمرها وخطّن العينين سچّة غيظ فوگ الماي )
و :
(… يا گلبي رص ظهري
الوحيد العارچ بطوله
ايتحده وما يعرف الموت
ولا ينضام
تگلّط مني يا گلبي ؟ )
وفي البيت الذي يخاطب الشاعر فيه روحه ويشخصنها ” تدنج راسها .. وتِسكِت ” ، نعود إلى بلاغة الصمت ، مثلما نعود للإمساك بسمة أسلوبية جديدة في شعر النواب وهي “الضربات التذكيرية” التي تنشّط ذهن المتلقي فيستعيد ربط “حبات” المسبحة اللغوية السابقة .. النواب صاحٍ ومتيقظ ومتحفز ، وهو في ذروة نشوة الخلق .. هذا ما يميز المبدع المحترف عن المبدع الهاوي إذا جاز مثل هذا التقسيم .. لا تغيّب نشوة الخلق البصيرة ” البنائية ” لدى الشاعر .
في البيت الأول قال : “أواكح ..چني إيد تفوج .. مگطوعة أصابعها ” .. وفي هذا البيت يعود ليقول بعد أن قطعنا شوطا مع أبيات القصيدة : “كل روح ومراضعها .. وكل إيد وأصابعها ” .. صحيح أن البعد الدلالي قد تغيّر نسبيا الآن في البيت الأخير عنه في البيت الأول ، إلا أن التنبيه وتحفيزة الإيقاظ بالنسبة للقارئ سوف تتحقق من خلال التداعي المُقارن من حالة التوظيف الثانية إلى الأولى . في القصيدة كانت المفردة الإستهلالية في البيت الأول هو الفعل “أواكح” : ( أواكح ، چني إيد تفوج ) ، الذي أعاد استخدام الصفة المؤنثة المشتقة منه ” وكحة ” التي وصف بها الأرض (أفه يا گاعنه الوكحة ) ثم الصفة الذكورية ” وكح ” التي وصفت اسعيدة شقيقها حچّام بها : ( يا واگف وكح طرگ الجلد والطين ) ، ليعود إلى الفعل في صيغة مضارعة للغائب : ( جرحنه يواكح صوابه ) ، ثم ليعيد استعمال الصيغة المتكلمة – الأنا ” أواكح ” التي افتتح بها قصيدته .








