الجــزء الثاني
د. حسين سرمك
ميزة النواب هو أنه يقلّب المفردة على وجوهها .. يعتصرها دلاليا .. يمتص روحها الدلالية ويلقي قشرتها الحروفية : (وأواكح بيها جوع ضباع) . ليس هذا حسب ، بل أن المهارة النوابية في التكرار لا تصحّي الانتباهة فقط ، بل تغيبها أحيانا من خلال الإيقاعية اللاهثة الضاجة .. فمن القواعد التقليدية في بناء القصيدة أن لا يكرّر الشاعر الكلمة نفسها في ختام البيت كمفردة قافية ؛ لكن النواب يعيد استخدام اللفظة ذاتها في أكثر من بيت من دون أن يشعر المتلقي بحالة التكرار أو ابتذال الاستخدام المُعاد . كرّر مظفر استخدام مفردة “حزام” مرتين :
أ – يمعودين .. أهلنه ، يلحچيكم .. يالنشامه .. حزام
ب – يا حچّام اسمع گصبه .. گصبه
وبالك تعوف الگصب .. ليل الغموگة حزام
وأعاد استخدام كلمة “تنام” مرّتين أيضا :
أ – تنام العين چي تعبانه مني .. ومن نفسها .. تنام
ب – عين الماتشوف احبابها الحلوين ..
ماهي عين .. ولا هي تشوف .. ولا هي بعمه .. ولا هي تنام .
كما كرّر مفردات قافية أخرى في أبيات كثيرة مثل كلمة : گاع ، حچّام ، الطين ، بسكوت … وغيرها .
إن الحركة الإيقاعية في القصيدة لاهثة وتتجنب الوصف المسترخي والتداعيات الهادئة . فمنذ المفردة الأولى في القصيدة والتوتر يتصاعد ، تعزّزه الروح الناقمة المُتمظهرة من خلال التعبيرات الحادّة خصوصا في نداءات المُخاطِبة التي تطلقها الراوية والتي تعبّر عن حرقة دفينة ونفاد صبر لائب :
(( يا معودين أهلنه ..
الگاع ضيجه من عگبكم
ما تسع حچام
تنام العين ، چي تعبانه مني
ومن نفسها …. تنام
ولك ردّوا ….
حنيني ايگعّد الميت
وحشتي اتطلّع بليل الشته
شمس الربيع
أيام )
يصل نفاد الصبر الناقم هذا أقصى مستوياته في البيت اللاحق الذي نعود فيه إلى الموضوعة المركزية ، وهي “العين” ، والدعاء المُتشفّي ذي الطبيعة المعذّبة للذات عليها :
( عين الما تشوف أحبابها الطيبين
ما هي عين
ولا هي تشوف
ولا هي بعِمَه
ولا هي تنام )
ومن هذا الخطاب – النداء ، تتضح طبيعة المُنادي الأنثوية ، وتُستكمل ملامحها الجنسية كصوت امرأة تنامى الإفصاح عن هويتها من خلال السمة “الباطنية” لمحاورة الروح والمستنجدة بأهلها ، ثم الدعاء ” النسوي ” على العين ، وهو من السلوكيات المعاتبة اللازمة للمرأة الريفية العراقية . ونفض اليد من تراب الصبر وتحمّل انفضاض الأهل عن قضيتهم يبدأ بنداء التعجب المستنكر : ” يا معودين أهلنه ” مرّتين ، ويتأجج في الصيحة الناهرة الزاجرة :
” ولك ردّوا ” . ومن ناحية التاريخ الشعري ، فإن النواب هو أول شاعر قام بإدخال مفردة ” ولك – ويل لك ” في الخطاب الشعري العامي العراقي . قبل النواب لم يكن الشاعر العامي قادرا على توظيف مفردة يعتقدها ذات مسحة مُهدّدة أو مُنذرة أو مُهينة للمخاطب ، وهي المسحة الواضحة في الاستخدام اليومي التعاملي بين الناس في العراق حين تقول لأحدهم : “ولك” ، لكن النواب بجراءته الإبداعية ، وبوعيه الحداثوي التفجيري للغة ، أقحم هذه المفردة وغيرها بجسارة في نسيج القصيدة الشعبية اللغوي ، بدءا من لازمته ” هودر هواهم ولك” التي يختم بها مقاطع قصيدة ” للريل وحمد ” التي صدمت الذائقة العراقية العامية التقليدية بقوة آنذاك من خلال التوظيف التعرّضي لمفردات كثيرة استُثنيت من الاستخدام الشعري لعقود ، واعتُبِرت أدوات للاتصال اللغوي السوقي .








