الجــزء الاخير
ومن جديد سنلاحظ ريادة أسلوبية مضافة تفرّد بها النواب . فهو أول من أدخل الرسم العددي في القصيدة . لم تكن هناك انتباهة فنية لمثل هذا التعبير المُبتكر . قبل هذه القصيدة صدم النواب متلقي القصيدة العامية بمثل هذا الابتكار في ديوانه ” للريل وحمد ” وذلك في قصيدة ” جد ازيرج ” المكتوبة العام 1962 ، والتي يقول فيها :
( صريفتنه رقم 6
صريفه 13 دم
صريفه 14 سل وخنازير
صريفه 15 نار ومزامير
صريفه 17
مذبح عَرُض بنته )
وقد لا تكون مرامي الشاعر الفنية والجمالية والنفسية واضحة تماما في هذه المحاولة الابتدائية من خلال أن قراءة الرقم مطابقة لرسمه الشكلي ، إلا أن رسم الرقم 1000 يضاعف التأثير البصري للرقم و يشدّد وقعه النفسي ، في الوقت الذي يمنح رسم الرقم 17 الذي يسبق لفظة سنبلة شعورا بالتصغير يتسق مع تصغير اسم الحرّة المراهقة ” اسعيده “، وهناك أيضا المقابلة بين الألف شرطي وحوشي الذين حُددت ماهية هويتهم ، وطوّقوا أخا الحُرّة التي لم تخف رغم أن عمرها 17 سنبلة . ولأن كل حركة في قصيدة مظفر مدروسة ومخطط لها ، فإنه لم يستخدم مفردة سنة أو عام لوصف عمر الفتاة ؛ استخدم لفظة “سنبلة” الرخية الهشة القابلة للكسر مقابل الألف المسلحين الذين لم تخف منهم من ناحية ، وبالتضاد مع أخيها حچام التي ، هي السنبلة المراهقة ، تقوم بالهاب مهماز نخوته وتعزيز معنوياته من ناحية أخرى .
وبإعلان الراوي عن شخوص سالوفته – حكايته ، نقف أمام مقابلة بين الإسم الأنثوي الناعم ” اسعيدة ” الذي أمعن مظفر في تأنيثه من خلال تصغيره ، واختيار حرف السين الهامس ، والإسم الذكوري الخشن “حچام” الذي أمعن الشاعر في تذكيره من خلال الحرفين الأثيرين والصاخبين لديه ؛ الحاء والجيم المعطشة ، التي تمنح الإسم تأثيرا مدوّيا عند الهتاف به . هكذا نادته اسعيدة : (صاحت يا چبير الهور .. يا ابن الشِلِب .. يا حچاّم) ، فردّد الهور بكل جنباته نداءها بنداء خلاق جديد:
( ردّ الهور :
إسمع يا چبير الشِلِب ، يا حچام
يا حچام .. يا حچام .. يا .. ح … چ .. ا … م )
ونداء الهور الجديد هو : “يا چبير الشِلِب” ، صفة ركّبها من الصفتين اللتين أعلنتهما اسعيدة في صيحتها : “چبير الهور” و “ابن الشلب” . فالهور بالنسبة لمظفر يقرأ وينفعل ويسمع ويستجيب ويحلّل . الهور كائن حي بكامل صفات الكائن الحي . هو شقيق روح مظفر بل حضنه الأمومي الذي احتواه في أشد مراحل حياته خطرا . والهور الذي يخاطب حچام الذي هو من نتاجه ، مثله مثل الشلب ، لا يمكن أن يقر له بأنه كبير الهور .. هو – أي الشاعر ، الابن – نتاجه ، وهو – أي الهور – الرحم المنتج والمفعم برمزية الحضن المائي الغنية الواسعة . حچّام هو ابن الشلب الذي هو مظهر بسيط وسط عطايا الهور التي لا تُعد .. وعليه يمكن أن يكون كبيرا على الشلب لا على الهور الذي استجاب حچّام لندائه الهائل الذي عبّر عنه الشاعر بالتشكيل الحروفي المُقطّع ليجسّد الصدى الصوتي المدوّي :
يا ..ح .. چ .. ا.. م .
ومن يفكّر قبل النواب بتقطيع أوصال الكلمة ؟ . هذه الحادثة التقطيعية الأولى في تاريخ الشعر العامي العراقي – وقد نقول العربي – . وقد جاءت استجابة حچام فورية وعارمة جسّدها الشاعر من خلال يقظة البندقية الجامدة التي استفزها النداء المُستنهِض :
( فزّت گبله البرنو
لگطها بساع :
يالوحدچ شريفة
وبيّت الضيم بزمرها
وخطّن العينين سچة غيظ
فوگ الماي )








