ثقافة شعبية

نظرات في الريل وحمد

أمين قاسم الموسوي

 

أظن أن قصيدة النواب (الريل وحمد) ستبقى من الأدب الخالد، وهي مما يكاد يجمع عليه النقاد في كونها القصيدة التي تُعد نقلة كبيرة في عالم الشعر الشعبي شكلاً ومضموناً. وقد استغرقت القصيدة عامين حتى خرجت الى عالم النور إذ ان الشاعر النواب نفسه يقول: بدأت بكتابتها عام 1956 ورأت النور عام 1958. وهذا يعني أن في القصيدة ما فيها من معاناة، وانها خرجت بعد ان انضجها الشاعر بنار عواطفه وثقافته العميقة. وهذه نظرات في جوانب من القصيدة، عسى ان اكون موفقاً في مس ما فيها من الابداع.

 1 – النظرة الاولى كانت في وزن القصيدة وايقاعها من خلال تفعيلات الخليل بن احمد الفراهيدي، فقد كانت تفعيلاتها:

مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعْ

مرينه بيكم حمد واحنه ابقطار الليل

يلتزم الشاعر التزاماً تاماً. بهذا الوزن والايقاع في البيت الثاني:

يا ريل صيح ابقهر صيحة عشگ يا ريل

ويستمر الشاعر ملتزماً بهذا الوزن والايقاع في اغلب ابيات القصيدة التي كتبت على شكل مقاطع متنوعة القوافي، ولكن ختام المقطع او قفلة بعض المقاطع يخرج عما التزم به.. فقوله:

هودر هواهم ولك حدر السنابل گطه. ويُقَطّع بالشكل الآتي:

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

وهذا الوزن يعده بعضهم من المجتث، ويرى الدكتور صفاء خلوصي أنه من مشطور البسيط.

وقد يخرج النواب في بعض المقاطع من القصيدة عن الوزن والايقاع الذي انتظم في اكثر القصيدة الى وزن وايقاع آخر. كقوله:

چن حمد فضة عرس

چن حمد نرگيله

امدگدگ بميّ الشذر

ومشلّه إشليله

هذا المقطع مختلف الايقاع والوزن عن معظم مقاطع القصيدة، ولكن الأذن تقبله، اذ يجوز في عالم الموسيقى التغيير والتنويع وعدم الاعتماد على جملة موسيقية واحدة، والمهم هو تقبل الأذن لما تسمع، وهذا طرف من أطراف التجديد النوابي في هذه القصيدة، مع العلم ان الوزن والايقاع في معظم القصيدة لا يدخل ضمن أي من بحور الخليل، والشعر الشعبي التقليدي القديم (الحسچة) يرفض هذه الانتقالات والتنويعات الوزنية، وقد وجدت أن الشعر الشعبي الحديث (المعاصر) كثيراً ما يميل الى تغيير الوزن، وربما تأثر بالنواب.

2 – كان النواب مبدعاً في بلاغته تشبيهاً ومجازاً واستعارة، فقد التقط بحاسته الشعرية الرقيقة العميقة كل جديد . كقوله:

چن حمد فضة عرس. فهذا تشبيه لم يسبق أحد النواب اليه، ومثله قوله: امدگدگ بميّ الشذر. ومن الطريف ان اذكر أني قرأت هذا المقطع على الشاعر والباحث الفلكلوري الشعبي المرحوم عبدالحسن المفوعر السوداني، فاعترض على قول النواب: امدگدگ بمي الشذر، مستغرباً (مي الشذر)، متسائلاً: هل للشذر ماء؟ وما المقصود بهذا المعنى، وهذا يذكرنا باعتراض أحد اللغويين على ابي تمام ومجازاته في قوله:

   لا تسقني ماء الملام فانني

                      صبّ قد استعذبت ماء بكائي

فقد أرسل ذلك اللغوي غلامه ليطلب له من أبي تمام كأساً من ماء الملام وفي هذا الطلب استغراب للمعنى المجازي وغمز فيه لوم، فما كان من أبي تمام إلا أن قال للغلام: قل لسيدك أن ياتيني بريشة من جناح الذل، لآتيه بكأسٍ من ماء الملام، وفي رد أبي تمام ما فيه من العلمية والطرافة والدهاء، لا يخفى على كل لبيب.

3 – من التجديد في القصيدة تلك الصور الرائعة التي انفرد بها النواب ولم يُسبق اليها، مع انها حافظت على عمق الفكرة وبعد الخيال وجمال الصورة، وهذا هو ديدن الأدب الخالد، فما اجمل قوله:

چن گذلتك والشمس والهوه هلهوله، ما أروع هذا التشبيه باداته (چن) والمشبّه الثلاثي (الگذله والشمس والهوه) والمشبه به (هلهوله)، أرى ان هذا التشبيه اضافة الى تفرده وجدته رائع في غرابته ودقته وعمقه، إذ شبّه المادي المجسد بالمعنوي، وتشبيه من هذا النوع يعد من أرقى التشبيهات، فالگذلة في يوم الشمس تداعبها الريح فتتحرك تلك الحركة، كما يتحرك اللسان عند اطلاقه (هلهولة) فيذهب اعلى واسفل، يميناً ويساراً، لما كان الشعر اشقر فقد أدخل الشاعر الشمس لتوحي لنا بذلك اللون، الذي يصرح به فيما بعد بقوله:

ذري ذهب يا مشط يل خلگك اشطوله

4 – في قوله/ گضبة دفو يا نهد لملمك برد الصبح

ويرجفنك فراگين الهوه يا سرح

أظن –وقد اكون مخطئاً- أن وصف النهد بـ(السرح) لم يكن موفقاً فهو نهد طُرطُبّة وهي صفة للذم لا للمدح، ولذلك كانت القصيدة المنسوبة الى المتنبي في الهجاء والسخرية في البيت المعروف

  ما أنصف القوم ضبّه       وأمه الطرطبه

5 – ان الشكل الأملائي للالفاظ العامية التي يكتب بها الشعر الشعبي يؤثر كثيراً على المعنى والوزن والايقاع لذلك ليس صحيحاً أن تكتب لفظة (الهوى) بالالف اليائية لأن هذا الشكل يعطيها معنى آخر غير المعنى المقصود (الريح)، وقد كتبت بما يدل على الحب والميل ولذلك كان الصحيح في قوله:

أن تكتب (الهوه) لتدل على معنى الريح، كما هو واضح من سياق المعنى.

6 – أود أن أشير الى طريقة كتابة القصيدة بوضع لفظة تليها نقاط ولا أرى مبرراً فنياً ولا معنوياً لهذه الطريقة التي تشيع اليوم خصوصاً في كتابة شعر التفعيلة المسمى خطأ بالشعر الحر، كما تشيع في النثر المركز مما يسمى بقصيدة النثر، إذ إني أجد أن الكثير من التنقيط يوضع بلا مبرر فني او معنوي دلالي، ولا يؤدي الا الى ملء مساحة اكبر من الورق ربما لسبب تجاري، وأعيذ المبدعين أن تتلاعب بهم أنفاس التجار والتجارة، وما أبعد النواب عن هذا! وأرى ان الالتزام بعلامات الترقيم من فارزة ونقطة..الخ. يمنحنا القراءة الصحيحة التي تعبر عما يريده المبدع في ابداعه.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان