حوارات وتحقيقات

تلعفر.. مدينة عراقية لم تنحنِ لتيارات الزمن العاتية

إعداد/ علي لعيبي

 

حين سئلت أعرابية عن أحب أولادها التسعة وأقربهم الى قلبها أجابت:   

“هو سعد.. بل سعيد.. بل عمرو.. بل يحيى.. بل عبد الله.. بل أحمد… وظلت تتدارك أسماءهم الواحد تلو الآخر حتى أتت على عد أسمائهم كلها، وقالت: هو المريض حتى يشفى.. والمسافر حتى يعود.. والغائب حتى يحضر.. والأسير حتى يفك أسره”.

   جزى الله هذه الأعرابية خيرا، فقد قربت كل المسافات بين من نحب، ولم تكن أفضلية أحد على أحد إلا لاعتبارات إنسانية، فيما يبقى الحب شاخصا كعلامة دالة نرفعها لتبيان إنسانيتنا وشفافيتنا ونظافة نفوسنا.

  كذا هو الحديث اليوم عن مدن العراق.. سواء أكانت الفاو أم زاخو أم بغداد أم العمارة أم الرمادي أم بعقوبة أم الناصرية أم تكريت. كلها يضمها مصطلح واحد لدى العراقيين الشرفاء هو الوطن.. وكل شبر من هذه المدن لها جذور تمتد مع شرايينهم، وإن كان هناك اهتمام لواحدة دون أخرى، فإنما هو لحسابات كما هي حسابات تلك الأعرابية.

   تلعفر.. هي واحدة من المدن التي انتخت بابنائها من جميع مدن العراق، من شماله الى جنوبه، وهي اليوم قبلتنا في مشاعرنا ودعائنا كما كانت مصطافنا ومربعنا منذ قديم الأيام. تلعفر بسكانها الذين يربو عددهم على (500) ألف شخص وهم من عشائر تركمانية معروفة، ظلت عصيت على الحكومات والأحزاب العصرية التي حاولت مسح هويتها، وظلت عراقية بخصوصية أهلها العراقيين بجنسيتهم وانتمائهم وولائهم مع اعتزازهم بقوميتهم واعتزاز العراقيين بهم وبها.

  تلعفر اليوم وبغفلة من الزمن تعرضت لشلة من المجرمين الأوباش، القادمين من مزابل المعتقدات والأفكار المسمومة، وتمكنوا من وضع أقدامهم في بعض من أحيائها، ولم يقدروا على فعل كهذا إلا بمساعدة الخائنين الذين حاموا منذ حين ومازالوا يحومون حول مائدة العراقيين الفسيفسائية، ذلك أن نفوسهم المريضة تأبى أن تراها مطعمة بأشكال الورود وأصنافها، من العراقيين على مشاربهم وطوائفهم وقومياتهم كافة. فقد تمكنت شرذمة من عصابة ماتسمى داعش من تحقيق موطئ قدم في ليل مدلهم من يوم السبت الماضي، لم يكن ليمنحها الهدوء والاستقرار حتى انقض عليهم أبناء القوات المسلحة بقيادة اللواء ابو الوليد بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من تمركزهم في بعض مواقع المدينة، فأبلوا البلاء الحسن بين كر وفر بخطط مدروسة، كان قد وضعها قادة حاولت وسائل إعلامية صفراء النيل من سمعتهم المهنية، وحنكتهم العسكرية ببث إشاعات عن تخاذلهم وتراجعهم أمام العصابات، سرعان ماثبت بطلانها وتكذيبها بالصوت والصورة من قبل قوات وحداتنا العراقية المغوارة قيادة وضباطا ومراتب. 

  ومن ضمن الأكاذيب التي بثتها القنوات مدفوعة هو خبر عن أسر الجماعات المسلحة قائد عمليات تلعفر بعد شن هجوم على القضاء ، فيما كان قائد عمليات نينوى أبو الوليد مستمرا بمقاتلة عناصر “داعش”، متهيئا لزف بشرى تحرير قضاء تلعفر من عناصر “داعش”. وأعلن أنه لم يتعرض لأي عملية أسر على يد الجماعات المسلحة، كما نفى تعرضه لاعتداء ارهابي وأكد انه بحالة صحية جيدة ومستمر بمقاتلة عصابات داعش الارهابية. كما كانت الأخبار مطمئنة تماما، إذ صرح ناطق عسكر ي صدر عن السلطات العراقية ان العمليات التي شنتها القوات العراقية في تلعفر، شارك فيها طيران الجيش وتمكن من قتل نحو 90 مسلحاً وتدمير عشرات العجلات والأسلحة المتوسطة والخفيفة. وقال مصدر امني مسؤول إن القائد أبو الوليد يقود عملية كبيرة ضد عناصر داعش الذين حاول الدخول لتلعفر، وبين ان القوات الأمنية صدت داعش بقيادة أبو الوليد “وتم تكبيد صفوفه خسائر كبيرة.

تلعفر اليوم.. تصرخ بصوت يرفض كل ممارسة الإبادة والقتل والتهجير، صوت يرجع صداه الى زمن المقبور صدام، وهي اليوم تثأر من أحفاده الذين يمارسون مامارسه زعيمهم المقبور، في محاولة منه لإخفاء هويتهم، ومازال أهل هذه المدينة يستذكرون كيف كان ممنوعاً أن يسمي الأب ابنه باسم تركماني، وكذلك تسمية المحلات والشوارع والأزقة، كما يستذكرون كيف اجبر جميع عشائر أبناء تلعفر التركمانية إلى تغيير تسميتها وتنسيبها إلى عشائر عربية، بعد أن أصبح أبناء العشائر وخاصة في فترة الثمانينيات أمام خيارين أحلاهما مر، أما الترحيل إلى صحرائي الانبار والمثنى، أو تغيير القومية والعشيرة إلى العربية، فما كان من أبناء تلعفر إلا الخيار الثاني مجبرين، ليس كرها لقوميتهم، ولكن حفاظا على أسرهم من التشريد والهلاك، وعلى أبنائهم من الضياع بين قضبان السجون وحبال المشانق. والآن جميعهم يعيشون في تلعفر حبا وتمسكا بمدينتهم المجاهدة البطلة، لذلك لم يرحلوا عنها رغم مامروا به الأيام الماضيات من مضايقات وممارسات وحشية لاإنسانية من عناصر العصابات الإجرامية الدواعش، الذين يتسللون الى البيوت الآمنة بين الحين والآخر.

  تلعفر متمسكة بعراقيتها

    مازال التلعفريون يكنون أبناء تلعفر في مدينتهم باسمهم واسم عشيرتهم، ولكن في خارج المدينة يكنى باسمه واسم مدينته (تلعفرلى او تلعفري) بسبب حبهم لمدينتهم كما توجد في جميع عشائر تلعفر من الطائفتين الكريمتين السنية والشيعية فلا توجد عشيرة أو فخذ أو حتى عائلة إلا فيها من الطائفتين.. 

  وتعد مدينة تلعفر من المدن التركمانية العريقة وتقع على بعد حوالي 70 كم شمال غربي الموصل وهي أكبر قضاء في محافظة الموصل بل في العراق اجمع، ويبلغ عدد نفوس التركمان فيها (500 ألف) نسمة وانهم يتكلمون باللغة التركمانية وبلهجة خاصة. وتاريخ تلعفر يرجع إلى عصر الحجري وهي من العصور ماقبل التاريخ أي (6000 ق. م) وفي حوالي منتصف ألف الثاني ق. م أصبحت تلعفر مع السنجار جزءا من الدولة الميتانية وفي عهد الآشوري نمت وتوسعت وبنت قلعتها الأثرية وكانت تعرف باسم (نمت عشتار) وبعد سقوط نينوى كانت منطقة تلعفر والجزيرة كلها مسرحاً للحروب الطويلة التي جرت بين الحيثيين والرومان الذين جددوا قلعتها. وبدأت الهجرة القبائل من الجزيرة العربية قبل الإسلام إلى العراق والشام وسكنوا قسم منهم في منطقة الجزيرة وجوار الموصل مثلاً بني الربيعة والذين سكنوا جوار تلعفر وسنجار وسميت المنطقة بـ (الربيعة).. وفي صدر الإسلام فتحت منطقة تلعفر كسائر ديار ربيعه ومنطقة الجزيرة في سنة 18 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) على يد القائد عياض بن غنم، ثم أصبحت تلعفر في عهد الأموي موطناً للخوارج ومسرحاً للحروب التي جرت بينهم وبين الأمويين وكان مروان الثاني بن محمد والياً على منطقة الجزيرة وعندما آلت الخلافة إليه قاد جيشاً للقضاء على فتن الخوارج وقيل انه بنى قلعتها فسميت بقلعة مروان.. وان مدينة تلعفر قد توسعت وازدهر سكانها في العصر العباسي في زمن الخليفة معتصم بالله ومن بعدهم في عام 447 هـ ـ 1055 م في عهد السلاجقة في زمن اميرها طغرل بك أحد أمراء السلاجقة وثم استولى عليها السلطان بدر الدين لؤلؤ، وحيث سكنها بعض العشائر التركمانية، وفي عام 656 هـ ـ 1258 م دخل هولاكو إلى بغداد وتوجه قائده (سميداغو) إلى منطقة موصل وتلعفر وأصبحت بعد ذلك جزء من الدولة الايلخانية ثم في عام 738 هـ ـ 1328 م جاء الدولة الجلائرية وحكمت العراق بقيادة الشيخ حسن الجلائري وأصبحت منطقة تلعفر جزء من الدولة الجلائرية حتى جاء القائد تيمور لنك ودخل الموصل عام 796 هـ ـ 1386 م ومر من مدينة تلـعفر وهناك طريق لا زال موجوداً جنوب تلـعفر ويسمى (تيمور يولي) أي طريق تيمور ،وفي عام 814 هـ ـ 1411 م وأصبحت مدينة تلعفر جـزأ مـن (الدولة قرة قوينلو) التركمانية أي (دولة الخروف الأسود) في عهد أميرها محمد قرة يوسف وهناك عشيرة في تلعفر ينتسبون إليهم، وفي عام 874 هـ ـ 1469 م أصبحت مدينة تلعفر جزأ من (دولة اق قوينلو) التركمانية أي(دولة الخروف الأبيض) بقيادة الأمير حسن بك الطويل وأيضا توجد بعض العشائر في تلعفر ينتسبون اليهم. وفي عام 914 هـ ـ 1508 م أصبحت تلعفر جزء من دولة الصفوية، وفي عام 941 هـ ـ 1534 م أصبحت مدينة تلعفر جزأ من الإمبراطورية العثمانية منذ عهد السلطان سليمان باشا هو أول والي عثماني في العراق حتى انسحاب الجيش العثماني من الموصل وتلعفر دون القتال في عهد الوالي خليل باشا، واحتل الإنكليز العراق في عام 1336 هـ ـ 1917 م وسيطر الإنكليز على الموصل وتلعفر بعد قتال طويل دام ثلاثة سنوات أي في عام 1920 م لحين تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب وكانت مدينة تلعفر في عهد الدولة العثمانية مركز لناحية تابعة إلى قضاء سنجار ثم أصبحت قضاءً في نهاية عام 1917 م. واليوم اهالي تلعفر يطالبون الحكومة العراقية بجعلها محافظة من محافظات العراق.. وقد دخلت تلعفر التاريخ بملحمتها الشهيرة في عام 1920 م والتي تدعى باسم حركة (قاج قاج) والتي بدأت بها الثورة ضد القوات الإنكليزية المحتلة، فان أول شرارة لثورة العشرين انطلقت من مدينة تلعفر الباسلة ثم لحقتها مدينة الرميثة. وقد وصف ياقوت الحموي مدينة تلعفر في كتابه معجم البلدان وقال (تل أعفر ـ ويقال تل يعفر ـ وقيل إنما اصله ـ تل الاعفر ـ للونه فغير بكثرة الاستعمال وطلب الخفة وهو اسم قلعة وربض بين سنجار والموصل وفي وسطه وادي فيه نهر جاري على تل منفرد، حصينة محكمة وفي مائها عذوبة وبها نخيل كثيرة يجلب رطبة إلى الموصل). وتسكن مدينة تلعفر عدد من العشائر التركمانية ولكل من هذه العشائر مناطقها التي تسكن فيها وتتشابه العادات الاجتماعية والأعراف فيما بينها ولها تقاليد مميزة في مسائل الزواج والأعياد والتعازي وسائر الاحتفالات الدينية والوطنية والقومية، ولاشك فيه هو إن أسماء جميع هذه العشائر أسماء تركمانية، ومن أهم العشائر التركمانية في تلعفر هي؛ (ايلخانلي، الله ويرد يلي، علي ديوه لي، بابالار، بكلر، جلبي، جولاقلي، سيدلر، نجارلار، مرادليلر، سرايليلر، دميرجيلر، قرة قوينلو، ديوه جي، بقاللي، أق قوينلو، محمد أغالي، قصابلر، خانليلر، حمولي، عجملي، حربو، قوروتلي، موللالي، نفطجي، فرهادليلر، علي خان بك، داودلي، همتليلر، بيرقدارلي، قابلان، ماوليلر) وهناك كثير من العشائر والأفخاذ التركمانية في منطقة تلعفر وضواحيها أصولهم يرجع إلى أصول السلاجقة والايلخانية وقرة قوينلو واق قوينلو والعثمانية كما هو معروف أن جميع أصول تركمان العراق يرجع إلى تلك الدول والإمبراطوريات التي حكمت العراق منذ مئات السنين..يتبع قضاء تلعفر 3 نواحي وهي: ناحية ربيعة. وناحية زمار. وناحية العياضية (آف كه ني) خليط من التركمان والعرب وقلة من الاكراد في القرى التابعة لها حيث تتواجد عشيرة الجرجرية (الكركرية) الكردية في قرى الناحية. كانت المدينة جزء من ولاية الموصل التي كانت إحدى ولايات الإمبراطورية العثمانية، وقد وسع المدينة كقاعدة عسكرية. يمكن اليوم مشاهدة آثار القلعة. بعد انسحاب العثمانيين أقيمت حامية في تلك القلعة وكانوا أول مقيمي المدينة التي تجاور القلعة. ويوجد في تلعفر مستشفى واحد هو مستشفى تلعفر العام بالإضافة إلى قطاع تلعفر الصحي الذي يضم ستة مراكز صحية داخل مدينة تلعفر ومراكز صحية أخرى في النواحي.

قد يهمك أيضاً