حميد الناعس
صور اكتظت حتى حلّقت من ذهنية امراة بسيطة ترعى الدواب تنتمي للمعدان، قساوة الطبيعة وشجن الترحال بحكم وجود الحيوانات التي لاتهدأ الا وظهورها مغطاة بالماء، اضافة لطعامها المفضل من صغار القصب، تكورت تلك المساحات الخضراء فانجبت ذهنية لاتضاهى، اضافة الى ان فدعة عاشت في كنف ابيها الحكيم وتعلمت منه الكثير قبل ان تتحول الى ايقونة حزن دائمة اثر فقدانها أخيها الوحيد حسين، الذي نزفت عليه مع الدموع شعرا معطرا بحزن لاتحده مسافات نثرت ذلك الالق، فصار شكلا للرثاء باصوات امهاتنا في اقبية العزاءات. وماسمعته من امي ظل يهدر بالذاكرة ويتناغم معها خصوصا بتلك الاصوات التي اعتادت الهموم وفقدان الاعزة:
وين الفراش الچان مفروش
وذيج العيال الچانت تروش
صفينه ييمه بسبرة اطروش
صور تراتبية تقطع الانفاس وهي تستذكر عائلتها قبل ان تفترق الوجوه والاماكن، وتصبح ذكرى مؤلمة حين تصفها بالسفر. عاشت فدعة في القرن الثامن عشر الميلادي، ونشأت بين الرميثة والحمزة، وكانت قد ابصرت النور في بيت من القصب وجذوع النخل، وحين حدث الجفاف ومات الزرع وجف الضرع، خرج والد فدعة واقاربها طلبا للماء، ولكن اينما حلوا وجدوا صدورا ضيقة فيطردهم اصحاب الماء، حتى وصلوا الى منطقة الشيخ حمد آل حمود وكانت فدعة منذ طفولتها ميالة للنغم، وفدعة ليست شاعرة فقط، بل هي حكيمة ولها امثال ترددها الناس ومقولات تعطر المجالس: (الولد مولود و الرجل موجود والاخو مفگود) واول من جمع شعرها في ديوان وحققه وعلق عليه هو الشيخ عبد المولى الطريحي النجفي رحمه الله، كانت فدعة هي البنت الوحيدة لوالديها، ولها اخ واحد اسمه حسين، عاشت في ظل تربية صارمة وكان علي الصويح والدها شاعرا، ولكنه ترك الشعر حين سطع نجم ابنته، كان المعيدي الحكيم شيخا لقبيلته يساعده اخوه محمد على المشيخة وزعيما من زعماء قبيلة بني ازريج. ملأ الحسد قلب اخيه محمد لان عليا كان مهابا ذكيا محنكا، ومما أوغر صدره اكثر فاكثر رفض فدعة الزواج من احد اولاده، فقرر اغتياله ودبر الأمر مع اولاده السبعة ووعد كبيرهم الذي رفضته فدعة ان يكسر (خشمها) ويزوجه منها بعد مقتل ابيها، لكن عملية الاغتيال والغدر فشلت فشلا مريعا، رغم دقة تخطيطها والتهيؤ لها ولم ينل علي الصويح منها سوى جرح بسيط في فخذ علي وأراد رجال علي الصويح الإنتقام منهم بقتل محمد وأولاده، ولكن علي والد فدعة عفا عن اخيه واولاده ورجاله، وغادر محمد موطن قبيلته ليقيم في منطقه نائية. والثابت لدينا ان فدعة واخاها حسين ذهبا الى بيت عمهما وازالا أثر البغضاء والشحناء، لكن فدعة التي صالحت ابن عمها وطيبت خاطره لم تتنازل عن قرارها بعدم الزواج منه، فتزوجت قريباً لها كان زعيم بني ازيريج وهو فتاها عبود الزيرجاوي الذي احبته صغيرة، وامضت حياة زوجية هانئة معه و انه قتل قبل اخيها حسين:
يبات الگلب يحسين ملهود
يجمـع بمـدة ويخـزن چبود
سادة وخزاعل عندك جعود
شي تندعي گلوبها سود
يحسين چيف بثار عبود؟
عگبـك تظـل زنـودها بنـود
وقتل حسين اثر تنافس مع ابن عمه محمد حول زعامة القبيلة وكانت فدعة ميالة الى تخلي اخيها عن الشيخة، حقنا للدماء وحفاظا على صلة الرحم، لكن شاء القدر ان يشتبك حسين وابن عمه في معركة حامية، وكان مع حسين رجال اشداء ومع ابن عمه رجال خبثاء، فعملوا مكيدة صلح وقتلوا خلالها حسين شقيق فدعة. والمؤلم ان اخاها لم يمت في المعركة بل جرح فيها جرحا مميتا ولبث زمنا طويلا يعالج روحه ويطبب جروحه:
كلما تون يا خـوي اناغي
شمفضاة خلگي وشوساعي
يميمر عرب يبن الصداعي
يعربيد والجابـوك افـاعـي
وكثيرون اولئك الذين درسوا الشاعرة فدعة، سواء خصصوا دراستهم فيها ولها، او تناولوها من خلال الشعر الشعبي او النسوي او فن النواعي، ونذكر منهم مؤلف كتاب العرب من الامس الى الغد: المستشرق الفرنسي جاك بيرك، الاب انستاس ماري الكرملي، كوركيس عواد، الشيخ عبد المولى الطريحي، الشيخ علي الخاقاني، الشيخ علي بازي، والاستاذ عبد الرزاق الحسني، الدكتور فاضل السعدون، الدكتور عليان الخزاعي، الاستاذ محمد شريف، الدكتور عبد الإله الصائغ الذي افاد من مشافهاته مع والحاج فاضل والحقوقي الشيخ عبد العالي آل شليبة وآخرين. وحددت تلك النبرة الحزينة التي تعود جذورها الى الأ لحان الحزينة (النعاوي) والتي تدعى باللغة السومرية (أمارا) وفي اللغة الأكدية ( أم وبي كأتي) وتعني حرفيا ام البكاء، أي المرأة الخبيرة التي تبتكر معاني الحزن العميق، وكلما ابكت واشجت ذوي الفقيد كلما سطعت نجوميتها وازداد ثراؤها! ثم تطور فن النواعي بعد واقعة كربلاء واستشهاد الحسين (ع)واولاده واخوته وسبي نسائه. وربما اسهم الرجال ايضا في النواعي يوم عاشوراء. كما وردت في موسوعة اعلام الصائغ الثقافية، لكن الباحثين اختلفوا في نسبها وكل ما نعرفه انها فدعة ابنة علي الصويح الحكيم ((الحسچه)) هي ابنة احدى قرى الاهوار في ميسان كما لم ترو موسوعة الصائغ هذه الاسطورة، بل ذكرت ابيات البنت الاولى والثانية على انها شعر فدعة البنت الوحيدة لابيها علي الصويح. كانت بارعة بالتكثيف والترميز واتقان تلك (المعيدية) البسيطة للشعر لم يكن عابرا، اذ انها سمعت وعاشت في زمن حروب العشائر المستمرة التي ماإن تنتهي حتى تبدا النساء بالندب والرثاء، ذلك ماجعل الشعرية تنمو في جذورها فخرجت عن نمطية الشعر حينها، وكتبت باسلوب مميز واستطاعت ان تكون الشاعرة و خنساء خزاعه. تقول وهي ترثي عزيزها حسين:
چانون الك يحسين ثاجب ما بين صلبي والترائب
فتاثرها لمقتله تاثرا شديدا وصارت تنوح عليه الليل والنهار لانه كان يميزها ويفضلها على الكثير من ابناء قومه وعشيرته. اما حب واحترام حمد ال حمود لها فكان مميزا اذ احتضنها وعائلتها في مقاطعته الكبيرة وكان لا يفرح الا بسماعها حين تمتدح:
حمد مرضي العرب والروم والباشات
يجالسها ويكلمها بسبع لسنات
لسان للعرب ولسان للبيكات
ولسان لعد الروم والشاهات
شاعره ذاع صيتها ونبغ جوهرها ولمع فجرها وابدعت واجادت. وهي تصف قيثارة حزنها:
يحسين آنه اختك هاي يحسين
يحسين شوفي ياضوا العين
يحسين مدري مصرعك وين
يحسين اجتنه الگوم صوبين
يحسين للشر مستعدين
يحسين ولسلب النساوين
منحها الرثاء بعض الصبر بعد ان لطمت خدها وشقت جيبها وبقيت حتى وفاتها تتشح بالسواد، هي تنوح وتبكي وترثي أخيها، في حزن قل نظيره:
اشما نوت يحسين أنا شيط
والنوم عفته والغطيط
يلتعدل العوجة عدل ميط
يمعزب الخطار تشريط
ردتك على گومك گليط
يلچنهم بعقلك زعاطيط
على خشومهم منقار قطقيط
يفحل النخل يملجح العبيط
تقول ايضا:
يباب الگلب يحسين ملهود
يجمع أيمده ويخزن چبود
ساده أوخزاعل عندك جعود
شي تدعي وشي گلبها سود
يحسين چيف بثار عبود
عگبك تظل زنودها بنود
وتقول في موضع آخر عندما أصيبت بمرض السل الرئوي حزنا” وكمدا” على أخيها:
يا علتي من كبر نفر
وتشچي الزعر وتريد تكبر
ولونهه بصخر ماع وتفسر
ولونهه بشجر ماچان خضر
ولونهه بسبع جار وتشمر
ولونهه بحر ماح وتطشر
منحچيلك يبويه أتصير منكر
امرأة تعيش مع الوجع وفي لجته المستعرة وبخيال زاخر بالنبض باثارة عالية الدقة والجودة رغم الجحيم الذي يتربع في قلبها من اثر الفراق:
گطعيت هيمه ونشف ريجي
ومعرف عدوي من صديجي
تمنيت خال ابني رفيجي
تتوجع هذه المرأة أنها تحكي عمق المأساة التي تعيشها في تلك العهود، ثم هذه امرأة أخرى تخاطب أخيها بعد إن ابتعد عنها وحست بخيبة الأمل:
هله ومرحبة للمجبل الجاي
حسبالي الوالي جاي لحذاي
ورفن عيوني ولبطن اچلاي
وعطشانه آلك عطشه على الماي
ولدري بزماني ضاملى هاي
افرگ اعزازي وطشش اعضاي
نحرتج يبيده بغير ماي
وتقول مايصف خيبتها حين ترى باب من تريده مغلقا فتخاطب ظله المفترض بحسرة:
جيت ولگيت الباب مسدود
اظل واجفه لوردن اردود
وخاف من ارد أيصير منكود
مشه وين چف الجايب الزود
وفي المدح الذي جاء بلغة عالية وتفرد ممتع:
حر ابو راشد على الصيده هوه
الجرح مخلابه فلايرهم دوه
صعصع الحاش الغيوم على الهوه
وگام ينعر بالفلك برعاده
وايضا:
ياسور المرمر الماله صواعيد
ياطير يامعذب الصواييد
ياصاجعه الطاحت من ارعيد
تتمنى ان يكون لها خمسة وخمسين ولدا، والغاية انها توزعهم وفق اعتبارات حلمها، فالعشرة الاوائل خداما في حضرتي علي بن ابي طالب وابنه الحسين(ع) والاخرين بين صانع للقهوة ومكرم للضيف، وبعضهم للشدائد والاخرين حاملي البنادق:
تمنيت البزر خمسه وخمسين
خمسه ابعلي وخمسه بالحسين
وخمسه يدگون الهواوين
وخمسه يديرون الفناجين
وخمسه اسباع امسلسلين
وخمسه يزرفون الحياطين
تظل ايقونة الشعرية العراقية الشعبية فدعة مدرسة مميزة ضمن كم هائل من التدوين، كون امتيازها يكمن في طريقة التنوع والامتداد وعبر لهجة صعبة التداول، وظفتها الشاعرة بلون مغرٍ، من خلال استدراك القيم الجوهرية في تكوينها، وسارت معها بخطوط ليست فطرية كما يدعي البعض، لان مديات الصورة والوصف المهذب والفائق الروعة، جعل فدعة تتميز على اغلب نساء (النعاوي) في وقتها وطغت شعريتها ضمن مساحات واسعة، فقطعت اناشيدها شوطا كبيرا ومازالت تتردد في الجنوب العراقي، والسبب يعود الى انها لم يصبها الصدأ ابدا برغم فقدان الكثير من الكلمات للهجة الجنوب قديما، وكان لفدعة هنا تفرد مميز واخر بضمها جزءا كبيرا من اللهجة في صناديق شعرية امنة ومنحتها سمة التوثيق الفعلي.








