الحقيقة / عبد السادة جبار
يستذكر العراقيون وخصوصا الساكنين في بغداد الأشياء الجميلة من أماكن ووسائل نقل قديمة وعلاقات ليهربوا من الماضي الأليم والحاضر المخيب للآمال لعلهم يستأنسوا بتلك الذكريات حيث يتبارون على قدح ذاكرتهم ليعرفوا كم تحتفظ بتفاصيل ربما ستكون منسية في يوم من الأيام بعدما تراكمت الهموم وألقت على كاهلهم كدحا يشمل الكبير والصغير قد أنستهم بعض التفاصيل إلا ان بعضهم لم يزل يحتفظ بذاكرة طرية ” الحقيقة” تشاركهم هذا التذكر وتسجل هنا ما قدحته الذاكرة العراقية بخصوص ما نسميه ( الحوت الأحمر ) أي باصات مصلحة نقل الركاب . يعود تاريخ النقل العام للركاب في بغداد الى عام 1889 حيث قرر الوالي العثماني مدحت باشا تأسيس شركة مساهمة تقوم بانشاء سكة ترامواي بين بغداد والكاظمية فطرحت اسهم الشركة في الاسواق وكانت قيمة السهم الواحد ليرتين ونصف الليرة….فأقدم بعض الاثرياء والتجار على شرائها بتشجيع من مدحت باشا ، وقد ذكرت جريدة الزوراء ان الاقبال على شراء الاسهم شديد وان الناس مستمرون عليه ، والظاهر ان مدحت باشا كان شديد الرغبة في انجاح المشروع فاوعز بكتابة ذلك لتشويق الناس على الشراء . وهكذا تم إنشاء خط حديدي (ترام) لتسيير عربة خشبية من دورين، تجرها الخيول من ساحة الشهداء حتى الكاظمية، وباستراحة وتبديل للعربة وللخيول في منطقة (المنطكة) او جامع براثا بالعطيفية، وسميت حينها بـ (الكاري) وبقيت هي واسطة النقل العام اضافة للدواب وحتى دخول السيارات الى بغداد .أما الباصات فلم تعرفها بغداد الا مع بداية الثلاثينات، وهي باصات بابدان خشبية مصنعة ابدانها الخشبية محليا. وكانت الناس تحشر حشراً في هذه الباصات التي بقيت تستخدم في النقل بالاجرة في بغداد والمحافظات حتى وقت قريب. وتذكر المصادر أنه مع بدء القرن العشرين اسس عدد من اثرياء بغداد وتجارها شركة لتسيير العربات بين بغداد وبعض المدن القريبة منها كبعقوبة والحلة وكربلاء وسامراء وكانت الواحدة من تلك العربات تجرها خيول اربعة تبدل في المحطات فكانت بذلك قادرة على قطع الطريق بين بغداد وكربلاء مثلاً خلال نهار واحد، وقد اشتهرت هذه العربات بين العامة باسم «عرباين عارف اغا» اذ كان هذا الرجل اكبر المساهمين فيها وسماها بعضهم كذلك «عرباين الكومبانية» وقد نجحت الشركة في تسيير عرباتها وأقبل الناس عليها واصبحت المقاعد في العربات تحجز قبل ايام عديدة لاسيما في موسم الزيارات والاعياد… ولعل من المناسب الذكر هنا بان الملا عبود الكرخي كان يدير مكتب الشركة في الكرخ فكان يجلس فيه بعقاله ذي اللفات الاربع ليبيع التذاكر او يحجز المقاعد. وفي الثلاثينات، فكّرَت الدولة العراقية الجديدة باستحداث نقل عام في العاصمة، فقامت عام 1938 بتاسيس مصلحة نقل الركاب وربطتها بامانة بغداد واستوردت لها باصات، ولذلك ظلت تسمية (الأمانة) على الباصات الحكومية في بغداد بسبب بدء ارتباطها بالامانة، ثم حين تحولت الى مصلحة لنقل الركاب صار الناس يطلقون عليها باصات المصلحة او ركبنا بالمصلحة بعد ان كانوا يقولون ركبنا بالامانة!! وحين تحولت في السبعينات الى منشأة صار البعض يقول ركبنا بباصات المنشأة!!! في تشرين الاول 1940 تقرر عقد اتفاقية مع احدى الشركات الانكليزية لشراء مائة باص، لكن نتيجة لظروف الحرب العالمية الثانية، الغيت الاتفاقية في عام 1942. وبذلك جمدت اعمال المصلحة وتاخر تنفيذ المشروع. وبعد تجميدها تأسست شعبة تتولى مهمة نقل الركاب في العاصمة وقد اشترت الشعبة هذه بعض مخلفات الجيش البريطاني في العراق من اللوريات وركبت لها ابدانا خشبية واستعملتها لنقل الركاب. قامت امانة العاصمة في عام 1942 بتسيير 21 باصا خشبيا في شارع الرشيد واعطي هذا الشارع رقم “2” وكان هذا الخط منقسما الى ثلاث مناطق ،تبدأ الاولى من باب المعظم وتنتهي في سينما الحمراء سابقا والتي كان موقفها في ساحة الامين حاليا – وتبدا المنطقة الثانية من سينما الحمراء وتنتهي عند سينما الزوراء “الشعب حالياً… اما الثالثة فتبدأ من سينما الزوراء وتنتهي في الباب الشرقي. اما الاسعار فكانت 14 فلسا في الدرجة الاولى والتي كانت مقاعدها مغلفة بالجلد و10 فلوس للدرجة الثانية والتي كانت مقاعدها خشبية غير مغلفة. استمرت امانة العاصمة بشراء سيارات وشاحنات الجيش البريطاني حتى العام 1946 حيث تم توقيع اول عقد لشراء باصات من نوع “كومر” والتي ساعدت على فتح خطوط جديدة وفي العام 1947 بلغ عدد الباصات 113 باصا مستعملا و7 باصات جدديدة، و27 باصا عاطلا، وتجمع بين السيارات التي ابدانها من خشب وكذلك الجديدة. مما دعا الى تشكيل مديرية مصلحة نقل الركاب مرة ثانية ولكنها بقيت مرتبطة بامانة العاصمة ويرأسها امين العاصمة، وبما ان امين العاصمة لا يستطيع التفرغ لاعمال هذه المصلحة، لم تتمكن من التقدم بحيث تؤمن الحاجة المطلوبة، لذلك كثرت الشكاوى حول عجزها، ففكر المسؤولون باعادة النظر فيها وفك ارتباطها من امانة العاصمة.. وارتبطت بوزارة الداخلية، ثم فك ارتباطها من امانة العاصمة، ولكنها هذا المرة ارتبطت بوزارة الداخلية على شكل مديرية عامة، اما الناس فقد بقوا يطلقون على الباصات تسمية “الامانة” ولم يسموها “داخلية” .
* يستذكر المترجم محمد خلف كباشي حين وقف في ساحة الميدان هذه الأيام ليجدها مجرد ساحة رصفت بأرصفة صفراء وبيضاء لكنها خالية من تلك الباصات الحمراء الجميلة ذات الطابقين ..قال : في شبابنا في السبعينيات كنا نجد في ركوب الباص متعة وخصوصا في الطابق الثاني اذ كنا نطل من خلال زجاجه على المحلات العامرة وعلى الحدائق التي نمر بها حيث كانت أشجار الياس الواطئة والتي كانت تقلم على شكل مستطيلات جميلة ومنتظمة ، وعند عبور الجسر نطل على نهر دجلة الجميل ، كنا نفضل ركوب الباص على ركوب السيارات الصغيرة لانه يجنبنا أيضا الحوادث اذ نادر جدا ان يتعرض للاصطدام او ان ينقلب على الرغم من احتوائه على العدد الكبير من الركاب ، كنا نشعر كأننا مجتمع صغير في مكان متحرك نتبادل الآراء السريعة يرافق ذلك تعليقات تبعث على الضحك او تفتح جدالا لا ينتهي ، إضافة إلى ان الجلوس في تلك الكراسي يرتاح لها حتى المعوق ، ليس مثل ما نعانيه اليوم في ركوب الكيات الضيقة والتي لا توفر راحة للراكب .
* يضيف الموظف المتقاعد خليل حسن ناشور أنا اذكر أن أجرة الركوب مختلفة ..فهناك الكراسي الجلدية أجرة الجلوس 15فلسا أما الكراسي الخشبية أجرة الجلوس 10 فلوس ..والوقوف 10 فلوس ..ثم أصدرت (الأمانة) دفاتر مخفضة للطلبة بإمكان الطالب ان يقتنيها بسعر اقل من الأجرة المباشرة ..ثم أصدرت الأمانة فيما بعد هوية شهرية تنفد بمرور شهر لتقتني غيرها ،بهذه الهوية بإمكانك أن تركب أكثر من باص في اليوم الواحد ذهابا وإيابا مما يخفف عن الطالب أعباء أجور التنقل وفي محطات الوقوف الرئيسية عليك ان تقطع التذكرة قبل الصعود من الباب الأمامي والنزول من الباب الخلفي ..ولا يقف الباص الا في المحطة المخصصة تحمل لافتة حمراء ..وهناك بعض المحطات التي تسمى اختياري وهي ذات لافتة خضراء ..والعلاقة بين الجابي والسائق تتم عبر أجراس موزعة على بدن الباص لا يستخدمها الا الجابي وحده ،وقد وصلت ارقام الباصات أكثر من مائة رقم اي انها تصل الى اكثر مائة منطقة في بغداد ،ولمدينة الصدر حصة الأسد حوالي أكثر من ثمانية خطوط.
* رسول سبهان صديق من المانيا زار العراق قبل شهرين تجول في الميدان شارع المتنبي الباب الشرقي آلمه جدا غياب الحوت الاحمر قدح ذاكرته ليقول : كنا نختار الطابق الثاني ونحن نستقل الباص رقم 13 في ذهابنا الى الكرادة خارج . وهناك الكثير من الروايات والقصص عن طرائف ركوب باص المصلحة،وبالاخص ذو الطابقين حيث كنا في صغرنا وشبابنا نستمتع بالصعود الى الطابق العلوي، وكانت الوجبة الاولى من باصات ذي الطابقين لا يوجد في طابقها العلوي جرس يستخدمه الجابي لتنبيه السائق للتحريك او الوقوف في موقف اختياري لانه كانت هناك بعض المواقف اختيارية باللون الاخضر وأخرى إجبارية باللون الاحمر.. وكان الجابي حين يكون في الطابق العلوي ويريد تنبيه السائق للوقوف او للتحرك يدبك برجله عند مقدمة الباص فيستمع اليه السائق، وكان بعض الاشقياء يقومون بالدبك على سطح سقف السائق فيتوهم ان الجابي هو صاحب الصوت وتحصل مشاكل.. ومن طرائف ركوب المصلحة وخاصة عند الزحام أن يصيح أحدهم (معودين محفظتي انسرقت!!) فما على الجابي الا ابلاغ السائق بإقفال الأبواب والتوجه بالجميع نحو أقرب مركز شرطة ليجري تفتيش للركاب للبحث عن (الجزدان) المسروق!! وغالبا ما لا يعثر على الجزدان لدى احد من الركاب لأن النشال الخفيف لا ينتظر في الباص بعد النشل بل يفلت في اول قطعة . لم تزل تلك الباصات تسير في اغلب دول العالم لانها اقتصادية ، اختصار في الوقود، تقليل من حجم التلوث ، وتخفف من زحام السيارات الصغيرة ، لانها تحمل اكبر قدر من الراكبين مما يوفر مساحة كبيرة في الشارع ،لك ان تتصور لو كل فرد ركب سيارة خاصة تحجز مساحة على الأقل ثلاثة أمتار هذا يعني أن ثلاثين شخصا يشغلون في الشارع حوالي 100متر ، لو ركب هؤلاء في باص لن يشغل اكثر من 6 امتار لاحظ الفرق في المساحة ..للأسف في بلادنا يفضلون السيارات الشخصية التي تصرف الوقود وتسبب الزحام وتنتج التلوث ..لو استبدلنا السيارات الشخصية بالباصات الكبيرة الجديدة والجميلة سيكون ذلك افضل كما يحدث في كل العالم ..في بغداد فتشت عن الحوت الأحمر(باص المصلحة) فوجدت واحدا يسير بين الشورجة وساحة النصر ..ركبت فيه لاستعيد الماضي لكني وجدته قد فقد تقاليد الماضي فالسائق والمحصل بلا بدلات رسمية تلك البدلات الصيفية والشتوية ..ويقف اين ما يجد ركابا دون محطات وقوف مخصصة ..ويقطع المسافة باكثر من ساعة ..لم أجد فيه نكهة الماضي وتقاليده التي عشتها ايام زمان . هناك مقهى صغيرة في باب المعظم بالقرب من الجسر تسمى مقهى الجباة كان يرتادها جباة وسواق باصات المصلحة .
* حدثنا ابن صاحب هذا المقهى الأستاذ حسين صعيب قائلا :كنت أتواجد مع والدي في العمل أقدم الشاي إلى هؤلاء العاملين في خدمة الناس وتفانيهم في الالتزام ،لقد أعجبني ذلك النظام في العمل التفتيش المستمر على بطاقات الأجرة ،توقيت انطلاق الباص وعودته في الوقت المحدد عمل ملاحظي المحطات في محاسبة المقصر بكل حرص ،الا اني كنت أصغي كذلك الى هموم المحصلين والسواق عندما يلتقون في المقهى ،كانوا يشتكون من تجمع بعض الركاب امام الباب ومن ضمن همومهم ان بعض الركاب خصوصا الشباب والطلبة يكتبون مذكراتهم على الكراسي ويستخدمونها كرسائل غرامية ولكنها تخلو من الكلام البذيء ، الا انه يضيف ايضا ان الباص كان افضل مكان للقاء المحبين في الاوقات التي لايوجد عدد كبير من الركاب ،ويقول ايضا لقد اشتغلت المرأة في هذا المجال ايضا اذ تم تعيين عدد من المحصلات والسائقات في بعض الخطوط غير المزدحمة مثل خط 15 الكرادة ، لكن في فترة الحرب البائسة تغير كل شيء وسيق اغلب العاملين الى الحرب وتم استبدالهم بسواق مصريين وبنغلادش كما تم الاستغناء عن بعض المحصلين اذ اصبح السائق هو الذي يقطع البطاقة مما اضاف تاخيرا لحركة الباص .
* ويشير الشاعر عبد الرزاق جاسم الى جانب مهم في موضوع الباص اذ يقول ولايخلو قوله من فكاهة ورومانسية : كنت اكتب الشعر في باص المصلحة لا يأتيني الوحي الشعري الا وانا في داخل هذا الحوت الأحمر ،انفصل تماما عن بيتنا وعن المنغصات اجلس في الطابق الثاني في المقدمة واستقل على وجه التحديد الباص رقم 13 كرادة خارج حيث يقطع تلك المسافات الجميلة السعدون وساحة الفردوس وتقاطع ساحة كهرمانة والسفارة الألمانية وهكذا الى ساحة الحرية ،اشعر كأني احلق وخصوصا في فصل الربيع حيث المطر والالوان الخضراء ،كانت حبيبتي التي التقيها دائما هي باص المصلحة حتى عندما التقي الحبيبة كنت اتجول معها عبر هذا الباص نتكلم كثيرا ونتعاتب ونتفق ونتواعد واقرأ لها شعري ثم نعود ،اليوم فقدت الحبيبة والشعر معا لان الكيا والجيب والستوتة التي نستقلها هذه الأيام لا تساعدني على الإبداع .
* المعلم جواد عواد قال : كنا نقيم سفرات جميلة لطلابنا في الابتدائية بالاتفاق مع الأمانة لتزويدنا بباص المصلحة لأنها أمينة وواسعة ومن جهة تلتزم بضوابط السلامة واصول السير وبإمكانها ان تلج المناطق السياحية الجميلة في بغداد نعبر بها الجسور ،وكان الطلاب يتمتعون بالباص وهي تتسع لعدد كبير من أولئك الأطفال باحجامهم الصغيرة وملابسهم الجميلة ،لم نكن نحتاج الى ان نؤجر سيارة قطاع اهلي لاننا لانضمن مزاج السائق وهو غير مرتبط بجهة رسمية تلتزم سلوكه ..اليوم بصراحة نتردد كثيرا قبل ان نقرر باقامة سفرة مدرسية .
* ثمة طريفة مؤلمة حكاها السيد خزعل مطر 70سنة قال : بعد ردة شباط المشؤومة التي قام بها الانقلابيون البعثيون في سنة 1963 شنوا حملة على الحركة اليسارية وبالتحديد الحزب الشيوعي العراقي حيث ملؤوا السجون حتى من جماهير الحزب والمتعاطفين معه وكان من بينهم صديقي شاطي حسين خياط ، كان لايمسك لسانه ومتحدثا جيدا لكنهم لم يجدوا لديه اي وثيقة تدلل على انتمائه فاحتجوا عليه بالمظلة الحمراء التي كان يضعها في واجهة المحل ،واعتبروا ذلك نوعا من التأييد للحزب فرد عليهم :اذن عليكم ان تعتقلوا كل من يركب في باص المصلحة او تغيروا الوانها .