حوارات وتحقيقات

رنين الماضي يطرق باب الشابندر

لويس فؤاد العمار

 

بصمت لا ينسجم مع صخب المقهى, أتملى في هذه الظهيرة القائضة من يوم الجمعة وجوه الجالسين.. يلكزني صاحبي لينبهني عن غفلتي التي عشتها وحيدا بين الجمع المحتشد بالشاي والاراكيل وعبوات الماء البلاستيكية.. صاحبي وبمزحة يقول: هل ترى ذلك المكان القريب من واجهة المقهى الزجاجية الجانبية؟ 

قلت :نعم

قال: هذا مكان العباقرة..

قلت: ماذا تعني ؟

قال وهو يتلمظ بقايا الشاي : اقصد الشعراء.. (هذا المكان حكر عليهم ولهم ولا يستطيع أيا كان أن يأخذ مكانه هناك.. تصور انه يظل شاغرا من الصباح حتى يأتي إليه الشاعر ياسين طه حافظ.. محمد علي الخفاجي.. وكتاب وروائيون معروفون.)

عرفت من أناس يتقدموننا بالسن والتجربة أن ذات المكان كان يجلس فيه بلند الحيدري.. وغائب طعمه فرمان .. و.. و.. لكنهم غادروه ليستقروا في مقهى البرازيلية في شارع الرشيد.

رنين الماضي يطرق الباب. اسمع صخب الخطوات بين الذاهب والآتي, بين الذي يجلس توا والذي  يقوم يعتذر مغادرا.

المتنبي هنا. سوقا للكلمة . المدخل الذهبي لمقهى الشابندر. فتاة تعتمر القبعة الفرنسية حسبت نفسها على ضوء طراز القبعة أنها في إحدى مقاهي الرصيف الباريسية فأخذت تشرب الناركيلة وتأخذ نفسا عميقا ثم تنفث ما عبأته رئتاها بهواء يتداخل مع سحابات دخان السكائر.. الرجل الذي يحمل كاميرا “كانون” عرفت فيما بعد انه المصور “مجيد حميد العبيدي” ويكنى بابي صلاح  يتجول بظهر مقوس أتعبته الدنيا وأقعدته مهنة التصوير بينما كان نجما لامعا حسب ما تحدث به البعض بأنه كان مصورا تلفازيا ومخرجا وعاملا في برامج عديدة وفوق كل هذا وذاك  مصور خاص للزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.

الرجل ثرثار لكن احترامه واجب, يتحدث عن نفسه كثيرا بعد أن تنكر له الناس وأولاده وبات طريد الفنادق وشريد الشوارع. استرق النظر إلى إحدى صوره القديمة , أقول لكم إن شكله يشبه تماما في ذلك الزمان الفنان العربي كمال الشناوي. يقولون عنه انه يحب أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ويردد مع نفسه أغنية عبد الوهاب الشهيرة” أنا من ضيع في الأوهام عمره … نسي التاريخ أو انسي ذكره” . بطريقة لاتخلو من لمسة اكروباتيكية ولكنها بسيطة , يضع أبو علي عامل المقهى استكان الشاي فوق الطاولة الصغيرة. ولبرودة الجو فانك تشتهي شربه . أمامك ركن داخل المقهى رفعت فوقه لوحة مكتوب عليها “مقهى الشهداء” في إشارة للاعتداء الإرهابي الذي استهدف شارع المتنبي بسيارة مفخخة  وخلف عددا من الشهداء المدنيين والشعراء والمثقفين وخمسة من أولاد صاحب مقهى الشابندر .  وبحسب بعض العارفين أن مقهى الشابندر كانت مقهى للتجار أو من الذين لهم مصالح يرومون قضاءها ومن المواطنين الذين يرومون ترويج معاملاتهم لاسيما وان الحكومة كلها كانت موجودة في ديوان القشلة القريب من المقهى . البناية التي مازالت قائمة تحكي قصة العراق في الزمن الماضي . والمقهى قريبة أيضا فيما مضى من الموقف العام (سجن السراي) الذي كثيرا ما كان يضم بين جنباته العديد من المناضلين الشيوعيين والوطنيين . واكتسبت الشابندر شهرتها منذ زمن بعيد ليس فقط بارتياد الشعراء والمثقفين لها , بل لأنها أصلا كانت محطة انتظار لمراجعي المحكمة الكبرى القريبة منها عند بداية سوق السراي. 

المقهى بشكل عام كانت مكانا للمواعيد واللقاءات لرجال التجارة والقانون ثم زحفت نحو الأدب أو زحف الأدب نحوها.. المقهى على حركتها وحشود الذين فيها كانت وكما يقول احدهم أن قارئ المقام العراقي الشهير رشيد أفندي القندرجي كان له فيها مجلس يشنف من خلاله الأسماع باعذب المقامات العراقية  وجموع المستمعين تنصت إلى صوته وهو يتنقل من مقام لآخر..

الشابندر.. السياب.. القندرجي.. رهط الشعراء والمثقفين.. كلها دلالات شاخصة على عمق تاريخ هذه المقهى العتيدة .. المعاني التي يكتسبها الوافد إليها هي تلك المشاهدة العيانية لرموز ثقافتنا العراقية .. حتى لتتخيلهم أنهم ملائكة يهبطون من السماء في أزمنة لم ندرك تواريخها..

فنانون.. فوتوغرافيون.. باحثون.. أكاديميون.. روائيون.. جمع من كل حدب وصوب يتجه  يوم الجمعة صوب الشابندر .. بينما تنظر مقهى حسن عجمي بعيون كليلة وقلب خالٍ إلى  فرسانها الأوائل الذين غادروها وتنكروا لتاريخها ولبطلها المارد حسين مردان ومن بعدهم كتاب القصة والرواية والشعر : موسى كريدي.. سامي مهدي.. سامي محمد.. سهيل سامي نادر.. ومن بعدهم جيل الصعاليك نصيف الناصري.. وسام هاشم.. سلام دواي.. عبد الأمير جرص.. صلاح حسن.. حسن النواب والقافلة تطول وتحتاج إلى سرد حكاية عن المقهى ربما في القادم القريب من الأيام.

قد يهمك أيضاً