تحقيق- زينا العبد الله
هذه المقدمة قادتني في ان اكتب تحقيقاً لمن تجرأ وتطاول على هذه القيم والسلوكيات الاجتماعية في اصول العشائر والاساءة الى تاريخها وشخصيتها وعناوين رجالاتها الذين اذا حضروا مجلساً او اجتماعاً يكون حديثهم هو القرار وهو الفعل وهو النهاية لما ينطق به رئيس العشيرة دون محاباة لهذا او مجاملة لذاك .. بل هو المنطق ان لم يكن هو القانون .. وكما يطلق عليه (بالسنينة) او العرف الذي يجب ان يسود. اليوم نجد وللاسف الشديد ان البعض من الذين تسيدوا الموقف العشائري (لاحظ ولا بخت ولا تاريخ) بل مجموعة من المنافقين وتجار (الديوان) او الفصل العشائري او الارتزاق على حساب العشيرة ..وهذه المسألة تمتد الى بداية التسعينات .. اي ايام الطاغية حينما اراد ان يكون له تاييد عشائري لنزعاته العدوانية والشريرة وسلوكه الدموي.. وقد اطلق عليهم بشيوخ التسعينيات.. واليوم شيوخ الحواسم.. حيث تجد ان العشيرة لها عشرون رئيساً او اكثر وخاصة عند عشائرنا في الجنوب… ولكن الاخطر من ذلك هناك طبقة عشائرية برزت في الساحة الاجتماعية ونستطيع القول عنها (مافيا العشائر) او عصابات عشائرية حيث يقوم هؤلاء بمساومتك في اي قضية تطرح عليهم في الفصل العشائري وخاصة للبعض من الذين لاعشيرة لهم او منبذون من عشائرهم او غرباء على هذا المحيط العشائري .. ولا اريد هنا ان اضرب مثلا او مجموعة من الامثال وهي صور دافعة لسلوك هؤلاء الشياطين من الذين نصبوا انفسهم زوراً وبهتاناً (رؤساء عشائر).
عايشنا هذه التجربة عن قرب وحضرنا بعض تلك الصور وننقلها في السطور الآتية كما هي دون رتوش وكما تحدث بها اصحاب الشأن سواء من كان ضحية لهؤلاء المشعوذين ام المشعوذين انفسهم!.
اتفاقات مشبوهة بين شيخ الجاني وشيخ عشيرة المجني عليه
يقول (ن.ع) احد شيوخ الايجار او شيوخ الحواسم: “للاسف الشديد اننا نلجأ احيانا بل في اوقات كثيرة ان نظلم الجاني والمجني عليه.. من خلال الاتفاق المسبق بيننا نحن شيوخ الحواسم كما يطلق علينا وبين الشيخ الحقيقي للضحية، لقاء مبلغ متفق عليه مسبقاً فاذا كان الفصل (الدية) التي تدفع الى عشيرة الضحية تبلغ 60 مليون دينار فيأتي احدنا ويساوم الجاني بدفع 25 مليون او اقل وهذا يعني اننا قد اتفقنا مع الشيخ الحقيقي الذي يمثل عشيرة المجني عليه وبمبلغ محدد، كأن يكون 5 ملايين.. وبهذا اننا ظلمنا الجاني والمجني عليه لان الدية او الفصل قد لاتساوي هذا المبلغ ولكننا نحن الشيوخ نتفق عليها مسبقاً وقبل اجتماع الشيوخ والاخيار من الناس الذين يحضرون ذلك الفصل” ..
شيوخ عند الطلب لمن يحتاج الفصل العشائري
اما المواطن اسحاق سركيس من الطائفية المسيحية الكريمة في بغداد فيقول” في نهاية عام 2012 وخلال قيادتي لسيارتي في احدى المناطق الشعبية حيث كنت في زيارة لاحد الاصدقاء ودون ان يكون لي قصد او عداء شخصي مع ذلك الرجل والبالغ من العمر 40 عاماً الذي كدت ادهسه لولا انتباهي على الطريق الى جانب ان هذا الرجل هو الذي صدم السيارة. وقد اصيب برضوض طفيفة ويستطيع السير وطلبت منه ان انقله الى المستشفى ليطمئن قلبي عليه، وبالتالي معالجته حتى لوكان على حسابي الخاص.. الا ان عشيرته رفضت ذلك وطلبت ان تقوم هي بمعالجته من تلك الرضوض وبقيت اتردد عليه في داره لاطمئن عليه، وفي احدى زياراتي فوجئت برئيس عشيرته يطلب مني الفصل. فقلت لهذا الرجل ماذا تعني..؟ اعني ان تأتي باهلك ورئيس عشيرتك لزيارتنا ويقدمون الفصل.. فرفضت لان الرجل لم يشك من شيء ويواصل عمله بشكل جيد.. فطلبت منهم ان يمهلوني اسبوعاً ليكون لأهلي علم بذلك، وعندما اخبرتهم اشاروا لي باصطحاب عدد من الاصدقاء وزيارتهم والاعتذار منهم وتقديم هدية لهذا الرجل قد لاتتجاوز العشرة الاف دينار، وهي من باب الذوق الا انهم رفضوا ذلك واعطوني مهلة (عطوة) لمدة اسبوع لنجلس جلسة عشائرية لغلق الموضوع، والا اتحمل المسؤولية، وقمت وبناء على نصيحة احد الاصدقاء باستئجار احد الشيوخ ووصلت القضية بـ (10) ملايين دينار.
شيخ عشيرة المجني يطلب التنازل عن الجاني
في حين مر الزميل ابو فاطمة من بغداد بحادثة فحدثنا قائلاً “تعرض اخي رائد الى حادثة دهس من قبل شاب مراهق كان يقود سيارته بشكل جنوني وحظنا العاثر جاء بهذا الشاب الطائش ليدهس اخي ويلقيه جثة هامدة لولا مشيئة الخالق الاحد، وقد تعرض الى عدد من الكسور اقعدته الفراش، وبصراحة لعدم وجود عناية في المستشفيات الحكومية قمت بنقله الى دار شقيقي لتلقي العلاج اللازم هناك لقرب الطبيب المعالج، ولوجودنا بقربه يمكن ان يسهل علاجه واتمام صحته بشكل سريع.. وبطبيعة الحال ان تلك الحادثة قد اخذت جانبها القانوني بعد اجراء الكشف من قبل الشرطة وبقرار قضائي الا ان اهل الجاني بدؤوا يمارسون ضغوطهم علينا من اجل التنازل عن حقنا الشخصي مع وجود اخي طريح الفراش، وهذه مسألة غير قانونية وغير اخلاقية ولايمكن القبول بها.. الا ان احد ابناء عمي وهو من الشخصيات التي يفترض ان تكون خيرة وكبيرة في العشيرة.. بدأ يمارس ضغوطه علينا بشكل لافت للنظر ويثير الشك لدينا ،لأننا اذا اسلمنا للعرف العشائري هو انك لايمكن ان تتنازل عن الدعوة المقامة ضد الجاني الا بعد معرفة مصير المجني عليه، والحال ان اخي مازال يتعالج لان اصابته لم تكن عادية بل كانت قاتلة لولا رحمة الباري عز وجل.. فماذا تسمي ذلك وهل ان ابن عمنا هذا “الشيخ” كان نقياً او لم يكن هناك اتفاق بينه وبين الجاني او عشيرته.. وماكان علي ان ارفض ذلك وارفضه بشكل حاد وبكل صراحة لانه يعبر عن المنطق والعرف الاجتماعي والجانب القانوني..
عشائر فقدت هويتها العشائرية لاصطياد الضحايا
يقول احد الاطباء ومن ذوي الاختصاص في الجراحة فضل عدم ذكر اسمه واسم العشيرة التي كان ضحيتها “خلال عملي في المستشفى وفي ساعة متاخرة من الليل حضر الى ردهة الطورئ رجل مصاب بعدة اطلاقات بين الحياة والموت .. وكنت خافراً في ذلك اليوم فاجريت له الاسعافات الاولية لايقاف النزيف اولا ومن ثم اعادة تنفسه بشكل طبيعي ولكني فضلت بقاءه في العناية المركزة الى صباح اليوم التالي لأخذ موافقة مدير المستشفى باجراء العملية الاولى لانه بحاجة الى مجموعة من العمليات والى كمية من الدم .. الا انه وللاسف قد فارق هذا الرجل الحياة لان اصابته كانت مميتة، وحتى العمليات الجراحية لايمكن اجراؤها الا بعد ان تتحسن حالته الصحية كي يتقبل مادة التخدير. ولكني فوجئت في اليوم الثاني وقبل استلام جثة القتيل (المريض)، صاح في وجهي احد اقاربه وبالتحديد شقيقه طالبا مني ان اقوم بزيارته بعد انتهاء مراسيم العزاء فرفضت ذلك لعدم وجود علاقة بهم وليس من المنطق ان ازور اهل المريض او كل مريض وفوجئت مرة اخرى بعد مرور اسبوعين بمجموعة من اهله تطالبني بالفصل بادعاء كاذب وغريب جداً، باني قد ساهمت في وفاته.. وبقيت الحالة لمدة 6 اشهر حتى اصبحت مشكلة عشائرية ولم تنته الا بعد ان اخذت عشيرتي وقمنا باداء الفصل وهو غريب من نوعه، لذلك فاني اطلب من رؤساء العشائر ان يكونوا بمستوى المسؤولية الاجتماعية والعشائرية ومن المعيب اللجوء الى هذه الاساليب التجارية…
شيخ عشيرة: الالتزام بالعرف العشائري يعتمد على مدى حرص العشيرة بسمعتها.
اما الشيخ عبد النبي ابو جلال شيخ عشيرة الفريجات في العمارة فقد كان له رايه ” انه وللأسف الشديد اصبح الموضوع وكانه استغلال من قبل بعض العشائر وحتى على ابناء العشيرة ذاتها والذين تراهم يلجؤون لعشيرتهم فقط عندما يطالبون بدفع دية لتوزيع المبلغ على افراد العشيرة لكن المسيء واحد ومن يتحملون الدية كثر، كما ان عملية الفصل اصبحت وكأنها عشوائية وهذا يعتمد على مدى احترام العشيرة لسمعتها، فتجد بعضهم يطلبون بما يرضي الله، لكن اخرين عكس ذلك ويسعون الى كسب مصالحهم الشخصية، او ارضاء نزواتهم مشيرا الى ان احترام الفرد للقوانين يأتي من كون تلك القوانين رادعة وناهية للأفعال السيئة والخارجة عن القانون، وهنا يجب ان يأخذ القانون مجراه، حتى وان تدخلت العشائر بالأمر لان النص القانوني يذهب الى ان من (امن العقاب اساء الادب)، واذ وجد الشخص انه سيفلت من فعلته كل مرة بدفع دية فهذا سيشجعه على ارتكاب افعال اشنع مستقبلا.
باحث: بعض العشائر تستغل (الفصل) كتجارة مربحة لهم
ويرى الباحث الاجتماعي حسام الدين سلمان “ان بعد العام 2003 اضطر العراقيون للرجوع والالتفاف حول عشائرهم طلبا للحماية خاصة مع غياب القانون وعدم الاستقرار و الانفلات مما دعت لذلك لكنها بدأت تتقاطع تدريجيا مع القوانين ،وتحوّلت العشائر من صورتها في الدفاع عن المظلوم وأخذ الحق من الظالم إلى عملية تجارية مثيرة للاهتمام، وهنا اصبحت الدية اشبه بالاتاوة تؤخذ من الاخرين بإسناد من العشيرة وابنائها ،ولم يقف الامر عند هذا الحد بل تطور الموضوع ليصبح اشبه بالتجارة المربحة عند البعض منهم حيث اتخذوها تجارة وعملهم الوحيد اصبح الدخول كطرف مطالب بالدية. وكلما تشاطر الطالب باستخدام عبارات وحوادث كوسائل ايضاح وتجارب مغمورين لافراد عشائر اخرين كلما نجح في استحصال مبلغ اكبر. وهذا ما ادخل المواطنين في متاهات لها اول وليس لها اخر ، فاي شجار او صاحب شكوى ينظر القانون في قضيته فيحيل الامر على ضوء الاضرار الجسمانية او النفسية الى الاحكام بالدفع للصلح او حبس لأيام للمعتدي او دفع تعويض بسيط جدا، لكن اسعار الفصل اختلفت مؤخرا فهي تنظر للصفعة بسعر والركلة بسعر وهكذا تسير باقي الامور”.
القضاء: لاتوجد علاقة بين العرف العشائري والقانون
اما المتحدث باسم مجلس القضاء الاعلى العراقي عبد الستار البيرقدار فقد اكد بان القانون العراقي لا علاقة له بقانون العشائر وليس هناك أي ربط بين الاثنين، لان القاضي ينظر للقضية وفق نصوص القانون لا غير، ويطلق حكمه بحسب ما متوفر من ادلة، واما بشان تنازل ذوي المجني عليه ومدى تأثير ذلك على الاحكام فان هذا موضوع ليس له اي علاقة بالحق العام، فهنا القانون يأخذ مجراه ، وتبقى الاحكام على ما هي عليه دون اي تغيير لان اهل الضحية يتنازلون عن حقهم الشخصي وليس الحق العام فالحق الشخصي من حقهم التنازل عنه، اما الاخر فهو امر قانوني يتخذ عقوبات بشأنها لأنه حق الدولة ولا يتأثر بتنازل اهل المجني عليه او المشتكي او المتضرر من جراء الفعل الاجرامي”.
خبير قانوني: اساسنا هو القانون ولا يختلف مع جوهر الدين والعشائرية الصحيحة
وكان للخبير القانوني طارق حرب رأي بان هذا الامر يعتمد على مدى احترام الفرد للقانون والعبرة هنا هو بالتثقيف على احترام القانون والتأكيد عليها، وان هناك أشخاصا هم خارج اطار السلطة يخرقون القانون مثل أصحاب رؤوس اموال وشيوخ عشائر، ونحن نرفض وجود اشخاص فوق القانون او تطبيق شيء غير القانون سواء سنة عرفية او عشائرية او شرعية وغيرها، الاساس هو القانون الذي لا يختلف مع جوهر الدين والعشائرية الصحيحة التي تقوم على اساس المحبة والتسامح.
الباحث الاجتماعي والاكاديمي د.فاضل ال حجام، بين ان دور العشائر سلاح ذو حدين، مؤكدا على وجود جانب ايجابي مقابل وجود سلبيات ايضا في هذا الموضوع، وان بعض القضايا الاجتماعية قد تؤدي الى صراعات بين العشائر قد تعجز الدولة عن حلها، وتتعاون المرجعية الدينية مع رؤساء العشائر على حل هذه القضية اذا كانت ضخمة، وهذا من الجانب الايجابي، ولكن لاشك ان هناك صراعات بين العشائر تؤدي الى سفك الدماء وربما لأسباب واهية، وهذه القضية النابعة اما عن جهل او تعصب، ولكن هذا لا يمنع من وجود عشائر تحاول اصلاح ذات البين، وتقارب بين وجهات النظر لانهاء المشكلة”.
العشائر العراقية هي عشائر اصيلة تحافظ على سمعة الوطن وكرامة ابنائه
من جانبه بين استاذ الشريعة الإسلامية الدكتور حسين علاوي” أنّ قضية الفصل العشائري وجدت في الشعب العراقي بفعل العوامل الاجتماعية الاقتصادية المختلفة، ويجب أن يكون الفصل العشائري طريقة لحل النزاعات بشكل أمثل وليس الخروج والتطاول على الناس، ونحن ننظر إلى عشائرنا إلى أنها تلك العشائر الأصيلة التي تحافظ على سمعة الوطن وكرامة أبنائه، ولكننا نعرف بأن في كل شعوب العالم هنالك الأناس ضعفاء النفوس الذين يمارسون بعض الممارسات الابتزازية، والذين لا يمكن حسبانهم على العشائر العراقية وأبناء الشعب العراقي”.
رجل دين: هناك قانون للديات يحفظ حقوق الناس
في حين اكد رجل الدين زهير الأسدي “أن الشارع الإسلامي المقدس وضع حدوداً وديّات للقتل والتجاوز على الآخرين وكذلك حل النزاعات بين الأطراف، ولكل حالة معينة هنالك دية محددة (الذهب أو الفضة) وان هناك قانونا للديات والذي يحفظ حقوق الناس وكرامتهم، فهنالك دية مثلاً بدينار من الذهب والذي يعادل اليوم ثلاثة أرباع مثقال الذهب وهكذا ، اما الان ونتيجة لتعطّل قانون (الديات) فقد أصبحت عملية الإصلاح بين الطرفين عائدة إلى شيوخ العشائر، وليس الدين أو الحكومة فقد تكفّلت كل عشيرة بوضع دية محددة وفق ميثاق تعقده بين العشائر الأخرى، ويكون الفصل العشائري محددا ولا يتغير لكل حالة سواء الاعتداء أو القتل، خاصة وإن الخروج عن الدية عرفاً وشرعاً هو حرام”. مؤكداً أن المرجعية الدينية في العراق تنظر إلى بعض الفصول العشائرية بأنها محرمة وأخرى جائزة وصحيحة، وتكون حراماً في بعض التصرفات التي تقوم بها العشيرة في فرضها للفصل على الطرف الآخر بصورة تخرج عن حدود الشرع وأكثر مما محدد ومتعارف عليه في المجتمع العراقي وما يصاحبها من ممارسات لم تكن لدينا في العرف العشائري ، مضيفاً الى ان استخدام بعض ابناء العشيرة لمصالحهم الشخصية او طلب مبلغ مالي مقابل الذهاب او المساعدة في حل مشكلة عشائرية هو تعدٍ على الشرع الاسلامي وعلى تقاليد العشيرة نفسها “.
ختامها مسك
ان السماح باستشراء هكذا ظواهر طارئة على العرف العشائري والتقاليد العشائرية العراقية العريقة تضعف من مكانة العشيرة نفسها بين باقي العشائر، فيا رؤساء عشائرنا الكرام احفظوا سمعة ومكانة عشائركم بالمحافظة على القيم الاصيلة والابتعاد عن كل ما هو طارئ على تقاليدنا العشائرية ،فقد حذرنا ديننا الاسلامي من تولي زعامة مجموعة من الناس مهما كانت قليلة لوقوفه الطويل امام الله عز وجل يوم القيامة ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة وهو لا يعلم ماذا يفعل بعض ابناء عشيرته، وعليه ان يكون على معرفة تامة بأحكام الشريعة كي لا يقع في مخالفتها ويجب أن يكون واسع الصدر رحيما رؤوفا بالناس يقبل العذر و جامعاً لشتى الخصال النفسية الحميدة.