حوارات وتحقيقات

وسط غياب للرموز الحضارية مسميات بغداد انتماء للعروبة وإلغاء للارث الرافديني

يوسف المحمداوي

 

…فما معنى ان يخلد عنتر بن شداد بساحة ونصب ونتجاهل كلكامش وحمورابي وسنحاريب واسرحدون وغيرهم من بناة الحضارة، وما هو السبب لتمجيد الاندلس، وعدن وبيروت وميسلون وعبد الناصر وعقبة بن نافع لساحاتنا وتجاهل رموز وطنية وثقافية، أسماء مناطق وشوارع تؤكد لنا وبما لايقبل الشك انها سياسة منظمة لالغاء الرمز العراقي من اجل الرمز العربي، وهذا الأمر مساهم فعال بجهل شبابنا بإرثهم الحضاري السابق وحتى الحالي، حملت تساؤلاتي و وضعتها على طاولة بعض الادباء والمثقفين لأعرف مبررات هذه المسميات.

 

الأيام ابتلعت الأسماء المضيئة.

يقول الامين العام لاتحاد ادباء وكتاب العراق الفريد سمعان ان في جميع بلدان العالم هناك شخصيات تاريخية لها علامات مضيئة في بناء وخدمة الوطن، ولها بصمات واضحة في تأسيس دولها ووضع العلامات المميزة في جميع مناحي الحياة وكل شخص ضمن الاختصاص والموهبة التي حباه الله بها، ومايميز العراق انه صاحب تأريخ وارث حضاري عميق يمتد عمره الى ما قبل ستة آلاف سنة، وعلى امتداد هذا العمر الطويل كما يوضح سمعان ان هناك رجالا ورموزا قدموا ليس لبلدنا فقط بل للانسانية جمعاء الكثير من الخدمات، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر العظيم حمورابي الذي يعد اول من شرع القوانين للبشرية، ووضع تشريعات ما يزال معمولا بها حتى يومنا هذا، مضيفا ان هناك شخصيات قدمت الكثير لهذا البلد قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية، ومن تلك العوائل التي لها تأثيرها بيت المدفعي والسويدي ونوري سعيد حيث كانوا مؤثرين في المجلس العثماني ومطالبهم معروفة بضرورة وجود حكم عربي في البلاد، الا ان – والحديث لسمعان- الايام ابتلعت تلك الاسماء المضيئة، ومنها الاب انستاس الكرملي ومع انه رجل دين لكنه كان اول المحافظين على اللغة العربية، وله مجلس خاص بهذا المجال وجميع اللغويين المعروفين والادباء البارزين كانوا من طلبة هذا الرجل.

 

حسقيل وحماية المال العام

سمعان بيّن في حديثه ان التأريخ لايمكن ان يتجاهل ساسون حسقيل وزير المالية العراقي بتعليماته الحسابية السارية الى اليوم، كونها تستند الى بنود حسابية دقيقة تحمي المال العام، وليس كما يحدث الان من انهيار مالي واقتصادي واخراج ملايين الدولارات منه، وهناك نزيهة الدليمي اول امرأة تتسلم منصب وزيرة في الشرق الاوسط، لماذا لا نسمي شوارعنا وساحاتنا باسماء تلك الشخصيات المضيئة؟، وغيرهم من الشخصيات التي لها دور بارز في بناء هذا البلد، وطالب سمعان الدولة بتأسيس هيئة منصفة وذات تأريخ وعلى دراية ومعرفة بتأريخنا العميق ومنحها الصلاحيات الكاملة بتسمية شوارعنا وساحاتنا وصالات السينما والمسارح والنوادي وحتى الازقة باسماء بناة الحضارة، بدلا من هذه التسميات التافهة التي لاتمت بصلة للبلاد، وتتحدى ميول ورغبات المواطنين وكرامتهم، نحن بحاجة الى اعادة النظر في التسميات الموجودة ومنح رموزنا الحق في تلك المسميات، ويتساءل سمعان كلنا اليوم سمعنا بحصول المهندسة العراقية زهاء حديد على الجائزة العالمية بالهندسة المعمارية، فلماذا لا نطلق اسمها على شارع ونحتفل بها، وهذا الامر بمثابة رسالة تحفيزية لبقية المبدعات لتقديم المزيد من الابداع، لكن فوزها مر مرور الكرام وكأن الدولة تتقصد هذا التهميش بحسب قول سمعان.

 

استنساخ تجربة عبد الناصر

هو نوع من الهيمنة على اللغة وتطويعها لاغراض ايديولوجية كما يقول الدكتور والشاعر حسين القاصد، مبينا ان هذه اللغة التي كانت مفرداتها تتسع الى معان عدة أخذت تنحسر الى حد ما، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر ان كلمة النائب في سبعينيات القرن الماضي تسببت بإعدام شاعر، وهو شفيق الكمالي لكونه سأل عن نائب رئيس تحرير مجلة آفاق بقوله (أين السيد النائب) فوصلت الى صدام وبيّت له الامر واعدمه، وبين القاصد ان استعمار اللغة واستلابها وشيوع هذه التسميات بدأت منذ العام 1963،حين قام عبد الناصر خلال مؤتمر الادباء العرب بتوجيه ادراج مفردات القومية العربية ضمن المناهج الدراسية، وسار على هذا النهج البعث المنحل الذي نصّب نفسه الوريث الشرعي لعبد الناصر قام باستنساخ التجربة، حتى ان عبد الناصر خاض حربين بالاولى ادعى النصر وبالثانية دفعت مصر الثمن غاليا، والبعث المنحل ايضا والنظام السابق خاض حربين بالاولى ادعى النصر وبالثانية مازلنا نعاني منها، وهذه التسميات هي وليدة تلك السياسة فما علاقة ساحة عدن بمنطقة الكاظمية، وما علاقة ساحة عنتر بن شداد بالاعظمية؟.

 

شطب الإرث الرافديني

القاصد يرى ان هناك حربا ايديولوجية في العراق تختلف عما هو حاصل في البلاد العربية، لان هناك حربين هما القومية والشيوعية، فالشيوعيون يؤمنون ان هناك ارثا رافدينيا يمتد الى حمورابي، ثم جاء القوميون فشطبوا الارث الرافديني واعتمدوا الارث العباسي لكي يؤسسوا الى مايسمى بالامة العربية بحسب قول القاصد، مضيفا انه حتى العباسيون لم تكن لديهم امة عربية بل هم اقرب للفرس من العرب، لكن النظام السابق كان يريد الزعامة العربية، وزهو الامة ان بغداد عاصمة العروبة فأخذ يستنسخ ويميل لكل ماهو عربي ويشطب كل ماهو رافديني، وهو نوع من الانتقام من الشيوعيين ولكل ماهو عراقي، وكذلك نوع من الامتداد الطائفي، لأن الفئة الحاكمة تعتبر أقلية، وامتدادها الطائفي يمنحها الاغلبية الطائفية، لذلك آمنوا بالقومية العربية حتى يهيمنوا على العراق، وبين القاصد استغرابه من اتهام او تسمية العراق بالصفوي من بعض الدول موضحا ان العرب عليهم ان يتهموا لكن عليهم ان يتفقوا بان مصر ليست عربية، لكن العراق عرب العرب، وهاشم جد النبي(ص)ابعث اولاده الى الحيرة لكي يتقنوا اللغة العربية لكونهم مقبلين على نبوّة وهذا موثق في كتاب المفصل في تاريخ العرب للراحل جواد علي، اي ان قريش كانت تبعث رجالتها لكي يتعلموا اللغة من العراق، فالعراق عرب العرب لكن العراق ليس عربيا لانه لايحتاج ذلك، وعلى العرب ان يكونوا عراقيين بحسب قول القاصد.

 

تأثير الفكر القومي

الروائي عبد الامير المجر يعتقد ان شيوع التسميات العربية في بغداد وبقية المدن العراقية يعود الى مرحلة العطش القومي وعطش التواصل مع بقية البلدان العربية، وكذلك عطش الاستحضار للرموز التاريخية العربية، مبينا ان الانسان العراقي سيحضرها لكون العراق مركزا للحضارة العربية والاسلامية، لذلك تجد الكثير من الاسماء استقرت في الذاكرة الشعبية العراقية وحتى في الذاكرة الرسمية، مثل كهرمانة والرشيد وبيروت والاندلس وغيرها من الاسماء العربية فرضت نفسها على العقلية العراقية من خلال ما هو متداول في المناهج الدراسية، ولذلك – يقول المجر- بقيت راسخة في الوجدان العراقي الذي يستحضرها من خلال الشوارع والساحات، وهذا الامر يجعل المواطن العراقي يشعر بانه جزء من المنظومة العربية، ويرى المجر ان رموز حضارتنا تكاد تكون اندرست، متمنيا ان يطلق اسم مجلس حمورابي على مجلسنا النيابي لكونه سلطة تشريعية وحمورابي هو أول من شرع القوانين للبشرية جمعاء، مبينا انه في كل الانتخابات يطلق عليها حمورابي (1) والتي تليها حمورابي (2) وهكذا، لكن تلك المسميات اندرست في العصر العباسي الذي مركزه بغداد وشاعت التسميات العربية بدلا عنها، وكذلك أسهم الفكر القومي بشيوع هذه المسميات لكون بغداد تمثل العمق العربي بحسب قول المجر.

 

الانتماء للأمة العربية

الاكاديمي والشاعر الدكتور حمد محمود الدوخي يؤكد ان هذه التسميات نابعة من شعور ان العراق ينظر الى نفسه وكأنه الولد الوسط في العائلة العربية، ناظرا الى اخوته الكبار كمصر وبلدان المغرب العربي ممن سبقوه بالتجربة، وكذلك ينظر الى اخوته الصغار في تلك التسميات مثل دول الخليج العربي، وهذا الزخم من التسميات العربية هو نابع بالاساس من احساس عال بالانتماء لهذه الامة وكذلك شعور الراعي لها، وهناك يجب ان ننظر الى مسألة مهمة وهي كم شارع وساحة في العراق اذا ما قورنت مع دولة الكويت لذلك تجد التسميات العراقية قليلة فيها، وفي القاهرة هناك شارع وحي باسم بغداد وفي بيروت هناك شارع البصرة وفي اغلب الدول العربية هناك مسميات لمدن عراقية، ولكنها ليس بالزخم الموجود في العراق، ويرى الدوخي ان لدينا مسميات لرموزنا ولكنها بحضور خجل، والسبب ان الانظمة الشمولية دائما ترسخ ايديولوجيات قومية بادعاء كاذب، فالنظام السابق يدعي حبه للعروبة لكنه اول من حاربها بحسب قول

الدوخي.

حضور التنوع بالتسمية

هذا المحور يشكل تطورا جديدا في ملاحقة الكثير من الاشياء الغائبة عن الكثير، كما يقول الاديب والاعلامي المغترب في استراليا عباس الازرقي، فمسميات الشوارع والساحات العامة والمحلات تعد من الدلالات، لذلك فرضت علينا في العراق تحديدا اسماء افرزتها بشكل او بآخر الحركات السياسية والنظم الشمولية التي حكمت البلد، مبينا ان العراق تاريخيا ليس عربيا، فالعراق بلد قائم منذ آلاف السنين وتمتد حضاراته المتعددة، وجميع مدن العراق لها خصوصية وعمق تاريخي، ولها رموز واحداث نحن جديرون بتسميتها لشوارعنا ومدننا ومحلاتنا وساحاتنا، لكن التوجهات القومية هي التي فرضت تلك المسميات، ويعتقد الازرقي ان القومية هي احتلال للعراق وبلاد الشام تحديدا، ساعدها بذلك ظهور حركات قومية ودخول اليسار والحضارة الاوربية والغربية، وكذلك ظهور الافكار الماركسية، وعليه يجب الان التصحيح لهذه الدلالات في جميع مدن العراق وليس في بغداد فقط، والبلد زاخر وغني بالرموز التاريخية، لان هناك اسماء جيرت للعثمانيين وهم ليس لهم يد في وجودها، وكذلك الامبراطورية العربية التي احتلت تلك المسميات، ويرى الازرقي ان التنوع الموجود في البلد يجب ان يكون له حضور في هذه المسميات من قبل الجهات المسؤولة.

 

تجاهل  للرموز

مدير العلاقات والاعلام في دائرة السينما والمسرح طه رشيد اوضح ان تسمية الشوارع والساحات يجب ان تكون بما يليق بحضارة اي بلد، ولكن وللاسف لم نجد في بغداد مسميات تشير الى عمق حضارة هذا البلد، والتسمية هي عودة للمتلقي من المارة، مضيفا انه على يقين بان العديد من المواطنين لا يعرفون من هو كلكامش، فعند تسمية شارع او ساحة باسمه بالتأكيد من خلال السؤال عنه سيعرف المواطن كلكامش وماهي حكاية ملحمته، ويرى رشيد السبب في انه الكثير من السياسيين يعتقدون ان الحضارة في العراق تبدأ من دخول المسلمين الى العراق، وان الفترة الجاهلية تنطبق ايضا على العراق وهذا تصور خاطئ، فالعراق بلد حضارة قبل مجيء الاسلام ففيه السومرية والاشورية والبابلية والاكدية وهي حبلى بالرموز، ولدينا ايضا رموز كبيرة وكثيرة مع تأسيس الدولة العراقية، فلماذا لا يقام نصب لساسون حسقيل امام وزارة المالية، وهو أحرص وزير مالية في تاريخ البلاد وهو من صك العملة العراقية، وكذلك لا يجوز ان نتغاضى عن اسم مناضل عراقي مثل سلام عادل او فهد ومصطفى جواد والحبوبي ونزيهة الدليمي وبنت الهدى التي اعدمت مع شقيقها الشهيد الصدر الاول، وبين رشيد ان الدول الاوروبية حتى على البيوت التي سكنها الادباء والفنانين الكبار يكتبون هنا سكن فيكتور هيجو من العام الفلاني حتى رحيله، ولكننا وللاسف تجاهلنا رموزنا ولجأنا الى اسماء ليس لها معنى فرضتها سياسة نظام يكرس القومية العربية كنهج لسياسته.

 

قد يهمك أيضاً