أسيل علي الجبوري
ربما الطفل، هو المتضرر الأول من الهجرة، فهو لا يستوعب الأسباب التي أجبرت والديه على ترك كل الوجوه التي أحبها. ويرى متخصصون نفسانيون أن العمر يؤدي دوراً كبيراً في مدى تقبل الطفل للانتقال الى موطن آخر، فالأطفال ممن لم تتجاوز أعمارهم العامين ونصف العام، يكون الأمر أقل صعوبة بالنسبة لهم إضافة إلى تقبلهم للبيئة الجديدة لأنهم لم يرتبطوا بعلاقات صداقة بعد، ولم يكن الصغير قد تعرف في هذا العمر إلا على والديه. اما الأطفال مابين الـ3-6 أعوام، فهم أكثر من سيشعر بألم الغربة، اذ سيفتقدون الجو الدافئ الذي كانوا محاطين به من كل الجهات (الوالدين, الأجداد, الأعمام, الأخوال، العمات والخالات) فيعتبر هؤلاء بالنسبة للطفل هم مصدر الحب والأمان ويحظى بينهم برعاية واهتمام قد لا يحصل عليه بعد ان هاجر مع أسرته.
خوف!
تقول (أم ياسر) وهي تروي حكاية ابنها ياسر ذي الـ(5) أعوام: إنها تعيش حالة من الخوف على صحة ابنها النفسية والجسدية وتؤكد قائلة «لقد أجبرت بين ليلة وضحاها ان اغادر العراق، وها انا اعيش في تركيا، وعلى الرغم من أن هذا البلد يعتبر من أجمل بلدان العالم ولعل ما يتوفر للأطفال من أماكن ترفيهية فيه تجعله يشعر بسعادة كبيرة، الا ان ياسر أصبح يرفض حتى الخروج من البيت ولا يحب أن يختلط بأي احد إضافة إلى أنه فقد شهيته بصورة شبه تامة».وأضافت «من الممكن ان يقضي النهار كله على نصف قطعة بسكويت. وقد حاولت انا ووالده ان نوفر له كل شيء يطلبه وجلب كل ما يريد من العاب الا انه امتنع عن اللعب بها واكتفى بالنظر اليها وهو يبكي». وتتابع «أظنه يبكي على أحبابه.. كان أميرا تلبى له كل أوامره… وكان المدلل ما بين العائلتين الكبيرتين وصاحب العصا السحرية التي تسحر قلوبهم بكل ما يصدر عنه من كلمة جديدة قد تعلمها او حركة حاول اكتسابها منهم فهو الحفيد الأول». وأشارت إلى أن حالة ابنها «ساءت وقررنا ان نأخذه لطبيب عسى ان نجد حلا لفقدانه للشهية وبعد ان اجرى الطبيب فحوصاته, جلس حائرا وسألنا من اي بلد انتم فأجبناه من العراق. قال :«ومنذ متى تركتم العراق»؟ قلنا : 5 اشهر. فقال الطبيب ان ابنكم يعاني من حاله نفسية قاسية ولا يريد ان يستوعب ما يعيشه الان. فهناك وجوه حفرت صورها بقلبه وعقله والان وبصورة مفاجئة قد حرم منها.. فلا سبيل امامه في التعبير الا فقدان الشهية ورفض كل ما تحاولان توفيره له.. وسيظل على هذا الحال قرابة العامين لحين البدء بالتكيف على الوضع الجديد».
حافة الهاوية
اما حسين (52) عاما روى لنا قصته مع ابنه مصطفى فقال: تزوجت منذ26 عاماً وزوجتي امرأة فاضلة أجدها من أعظم النساء في هذه الدنيا بعد والدتي، كما أنني اب لثلاثة ابناء مصطفى (25) عاما وعلي (20) عاما وآية (18) عاماً. ويضيف «من خلال عملي جنيت من المال الكثير وقمت بعمل عدة بحوث ودراسات في مجال تخصصي واحرزت والحمدلله عدة نجاحات خلال رحلتي العلمية والعملية التي امتدت لـ18 عاما واستطعت خلالها ان اوفر لأسرتي حياة على اعلى مستوى من الرفاهية.. وبعد أن ساءت الأوضاع الامنية في العراق وبعد ان تعرض ابني لاطلاقات نار مجهولة فقد قررت انا وزوجتي ان نرسله للعيش خارج البلاد لحين ان تنجلي هذه الغمة السوداء التي لازمت سماء العراق». ويتابع مستطردا «سافر ابني مصطفى الى تركيا وعاش هناك لعام ونصف تقريبا وكنا انا ووالدته واخوته نذهب اليه بين فترة واخرى للاطمئنان عليه ونعود. علما اني لم اكن امنع عنه شيئا ولم اجعله بحاجة لأي شيء فقد وفرت له كل ما يحلم به اي شاب في بلد الغربة كي لايسلك طرقا اخرى لنيل ما يريد». وقال «بعد فترة من الزمن لاحظت والدته بانه اصبح لا يتصل بهم الا قليلا بعد ان كان يتصل اكثر من ثلاث مرات في اليوم الواحد فاصبح اتصاله مرة بالاسبوع. وان اتصلت به لا يعيرها اهمية ولم يعد يتلهف لسماع صوتها ويحاول ان ينهي المكالمة بحجة انه مشغول. إضافة الى ان المبلغ الذي أرسله له شهريا اصبح لا يكفي لسد احتياجاته. حينها قررت زوجتي ان تذهب لتعيش معه ولو لفترة». وأشار إلى أنه «بعد شهر تقريبا شكت لي ام مصطفى حال ولدنا مصطفى.. فقد لاحظت عليه بعض التغيرات في شخصيته وأخلاقه –والكلام للوالد- وبدا يتقن الكذب ويخرج لساعات طويلة تبدأ من الصباح الباكر الى ساعات متأخرة جدا من الليل وكان يبررها بأنه يعمل ويعود مرهقا ولا يريد التحدث أكثر. ثم تطورت حالته وبدأ يسرق المال من والدته التي لم تكن تبخل عليه بشيء». ويختتم كلامه بالقول «كانت هذه الأخبار كالصاعقة على رأسي إضافة الى المخاطر التي تعرضت لها في العراق والتي تحملت مخاطرها من اجل توفير الرفاهية لأبنائي. فقررت ان انهي عملي في العراق والتحق بزوجتي عسى ان انقذ ابني الذي كان يتعاطى المسكرات عن طريق رفقاء السوء. وحمدت الله انني أنقذته وعالجته في الوقت المناسب.فقد كاد يدفع حياته ومستقبله ثمنا لغربته فقد كان على حافة الهاوية».
كأني رضيع
وتقول السيدة هديل (29) عاما «بعد الأحداث التي تعرضت لها أنا وزوجي وأطفالي في العراق واوصلتنا الى قناعة استحالة البقاء هناك لما يترتب عليه من مخاطر جمة على حياتنا فقد قررنا انا وزوجي ان نترك البلاد ونذهب لنعيش في بلد قد يوفر لنا الامان. لذلك استسغنا فكرة الهجرة». واضافت «على الرغم من اني ابلغ من العمر29 عاما وام لطفلين الا أني وعند وداع (امي وابي) شعرت كأني رضيع يفطم من حنان أمه. فانا لا استطيع ان احتمل طول البعد عنهما..واتمنى ان اقر عينيي برؤيتهما كل صباح اما الان فانا أراهما وأتحدث واجلس معهما من خلال شاشات اكن لها وللتكنولوجيا العرفان والامتنان لأنها قد هونت علي مصيبة فراقهما».