حوارات وتحقيقات

خانات الشورجة التراثية.. تغادرنا بأوامر المحال التجارية

تحقيق- يوسف المحمداوي

 

يتصور البعض ان ما بنته الامبراطوريات التي استعمرت هذه الدولة أو تلك هو تابع شرعي لأولئك الغزاة، ومسألة إزالته بقصد أو من غيره أمر غير مهم وبقاء تلك الشواخص من عدمها لا يؤثر أو يشوه الصورة التاريخية لهذا البلد أو ذاك، وبرأيي ان التفكير بهذه العقلية هو تصريح مجاني لقوى الإرهاب والظلام من أمثال الدواعش للإجهاض وتدمير كنوز حضارتنا الإنسانية، وبناء على ذلك التفكير المأزوم يجب علينا أن ننظر بعين المتفرج الى من يريد تدمير ما بناه العثمانيون طيلة حكمهم للعراق والعالم التي امتدت فترتها لقرون، وينطبق الأمر كذلك على ما تركته الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من عمران يجسّد للأجيال ذاكرة حقبة زمنية عاشتها أجيال سبقتنا على هذه الأرض، وبالتالي ان ذلك التفكير يمثل غياب الوعي الحضاري لأهمية كل شبر وكل زمان عاشه البلد.900خان في بغداد. ما دفعني الى الخوض في غمار هذا الموضوع المهم هو شعور كل مواطن يرى اليوم العديد من البيوتات التراثية والخانات والشواخص التي تتقد شعاعا بحضارة الوطن مهددة بالزوال اسما وهيكلا، في حين يرى جميع من توفرت له فرصة زيارة العديد من بلدان العالم التي لا تكبرنا بالوجود أو الجاه، تحافظ على أبسط مفردات بداية نموها، ففي ذلك المتحف تجد كرسيا أو حذاء عسكريا لطاغية أذاق الشعب الذل والهوان، وفي آخر تجد حلي ومكياج الملكة التي جوّعت شعبها وحتى سرير نومها، فكيف الحال بمقنيات رموزها الوطنية والأدبية والفنية من بيوت سكنوها أو أدوات استخدموها بحياتهم، أضن العناية والحماية والرعاية لها ستكون تحت شعار «حدث ولا حرج»، وبغداد الذي حارت بترفها الحضاري وغناها الفكري وقصائد الشعراء ولوحات الفنانين وكتابات المستشرقين تفقد كل يوم مفردة من مفكرة بريقها وألقها، وسأتناول اليوم موضوع خانات بغداد على سبيل المثال لا الحصر، وسأختصر تلك المواقع التي تتجاوز التسعمائة خان أيام العباسيين، ببعض خانات الشورجة فقط والتي يتجاوز عددها (13) خانا معظمها أزيل تماما بعد أن استعمرتها سطوة المحال التجارية في ذلك السوق العريق، ويصيبك الإعياء وأنت تسير في ذلك السوق المزدحم بالناس والبضاعة حتى تعثر على من يتذكر موقع هذا الخان أو ذاك وحدوده بل وحتى تسميته على الرغم من أهمية تلك المعلومات تاريخيا كما أسلفنا.

 

الدجاج أم الزجاج؟

توجهنا في بداية الرحلة أنا والزميل نهاد العزاوي صوب خان الدجاج بدلالة الزميل قاسم موزان الذي يملك والده محلا فيه، يقول صباح حسن صاحب أحد المحال القديمة: «إن الخان يعود للعصر العباسي، وتمت إعادة بنائه من قبل مالكته وهي امرأة يهودية تدعى (رجينة ساسون) عام 1932، وبعد وفاتها على الرغم من وجود وريث شرعي لها وهو ولدها المقيم في سويسرا لكنه لم يطالب به فاعتبر العقار من الأموال المجمدة التابعة لعقارات الدولة، وهي من تتحكم ببدلات الإيجار للمحال الموجودة فيه». مبينا انه على الرغم من كون الخان من المواقع الأثرية لكن لم تجر عليه أية عملية صيانة سوى من قبل الدولة أو من قبل شاغلي محاله ومخازنه، ويعتقد حسن ان تسميته بـ”خان دجاج” هي تسمية مغلوطة تحت ذريعة وهمية بأنه كان مركزا لبيع الدجاج، لأن اسمه الحقيقي كما نقل له والده عن جده بأن واجهة الخان من جميع الجهات مبنية من الزجاج فأطلق عليه بمرور الزمن خطأ اسم «خان دجاج» بحسب قوله». مضيفا: «ان مساحته تبلغ 1500 متر وعدد المحال فيه تصل الى (100) محل، فضلا عن المخازن التي تكون بالعادة في الطابق العلوي بحسب قوله».

 

الحرائق والمصادرة

محدثنا صباح حسن أجابنا بقلق لظنه أننا نريد شراء المحل منه: «تره احنه أصحاب عوائل وين انروح، وياهو اليسمعنه حتى لو تظاهرنه، ولم يصدق الرجل إلا بعد أن أقسم له أحد أصحاب المحال بأن الجماعة من طرف بيت موزان»، المهم غادرنا القلق حسن الى صاحب محل آخر في الخان وهو السيد ماجد جاسب الذي شكا من زيادة بدلات الإيجار مع كل مزايدة على المحال والتي تحدث كل اربع سنوات. مبينا أن «الخان كان في بدايته موقعا للمطاعم وبيع الشاي، ثم تحول الى محال لبيع لوازم الخياطة، وبعدها سيطرت تجارة الملابس النسائية والاكسسوارات والكماليات على أغلب محال الخان»، مشيرا الى أن «الخان تعرض لحريق في بداية التأسيس وتمت إعادة البناء، وكذلك تعرض لحريق بعد العام 2003 لكونه مجاورا لخان القشطيني الملاصق لعمارة القادسية التي طالتها الحرائق لأكثر من مرة نتيجة التماس الكهربائي». ومن الحوادث الأخرى كما يقول إن العديد من أصحاب المحال تم طردهم ومصادرة أماكنهم من قبل النظام السابق لأسباب مجهولة وشملت المصادرة (23) محلا من قبل سبعاوي إبراهيم الحسن وتمت إعادتها الى أصحابها بعد التغيير، وأكد جاسب أن أغلب شاغلي الخان في بدايته هم من اليهود والكرد الفيليين وتم ترحيلهم من قبل النظام السابق، وبعد إزالة النظام عاد بعضهم وتم تعويضهم من قبل الشاغلين بالتراضي».

 

اختلاف الباحثين بالتسميات

صاحبنا صباح الذي اتهمنا بمحاولة شراء الخان تحدث إلينا: «بشأن تسمية الخان ما بين الدجاج والزجاج، جعلني بل يجعل الجميع على قناعة بأن بعض التسميات لم تصلنا بصورة دقيقة، وما يؤكد ذلك هو اختلاف الباحثين والمؤرخين على أصل اسم الشورجة مثلا، إذ اختلف المؤرخون والباحثون في أصل تسمية الشورجة وتعددت آراؤهم، خصوصا أن الاسم ليس له معنى بالقاموس العربي، فالشيخ جلال الحنفي يقول إن معنى الكلمة قد يكون «المستنقع» أو «نهر فيه شوره»، مضيفا ان بعض الناس يذهب الى أن الاسم جاء من اقتران بيع دهن الشيرج بالمكان لأن هذا الدهن يعد من الدهون التي كان أهل بغداد يستعملونها في مطابخهم. فيما يرى المرحوم الدكتور مصطفى جواد ان الكلمة منحدرة من شوركاه، أي محل (الشوره) و(الماء المالح) فهو يعتقد انه كانت في محلة شورجة بغداد في الزمن القديم بئر او بركة ماء من الماء المالح فحرفت الى الشورجة، أما الأستاذ سالم الآلوسي فيعتقد ان أصل الاسم هو (شيرج) وهو دهن السمسم حيث كانت هناك عدة معاصر يديرها اليهود في منطقة الشورجة ببغداد فالاسم إذن ينسب الى الشرجة التي حرفت الى الشورجة».

فيما يرى منذر زيدان صاحب محل قديم لبيع التوابل: أن «الشورجة كلمة تركية مكونة من مقطعين الأول (الشور) ومعناه بالتركي النهر الصغير والثاني (جه) وتعني المالح، وحسب القاموس التركي كما يقول زيدان تعني النهر المالح الصغير». 

 

(جغان) والموقع المتميز

تركنا دوامة التسميات نبحث عن متحدث آخر يمتلك معلومات عن معلم ذهب اسمه مضرب للأمثال وهو «خان جغان» الذي يتوسط قلب الشورجة والداخل لها أو الخارج منها لا بد أن يلقي تحية المرور عليه، ووجدنا ضالتنا عند خضير عطية صاحب محل لبيع الأقمشة وهو أستاذ تاريخ ليبين لنا أن «الخان الذي تحول بمشيئة الحركة الاقتصادية في البلد الى أسواق ومحال متخصصة كانت ولادته الأولى في القرن السادس الميلادي، حيث تم البناء عام 1592 في زمن السلطان العثماني مراد وفي عهد والي بغداد سنان باشا».مبينا ان سبب إطلاق المثل الشائع عليه (قابل هوه خان جغان) هي بسبب موقعه المتميز وسط الشورجة، ولا بد أن يمر عليه الجميع. مضيفا ان هناك مثلا آخر ايضا يطلق عليه وهو (هي الجنة خان جغان ياهو اليجي يدخل بيها)؟، واوضح محدثنا ان الخان الذي تأتي تسميته تعود للوالي العثماني جغالة زاده بقي قائما حتى العام 1929، وقد تم هدمه في ذلك العام وتحول الى أسواق ومحال ومخازن، مؤكدا ان العديد من التجار في ذلك الزمن كانوا يتبرعون للولاة العثمانيين بالأموال والعقارات لغرض استرضائهم، ولذلك تجدها الى يومنا هذا وحتى بدائرة التسجيل العقاري مسجلة بأسماء الولاة وأبنائهم، وهم ليس لهم فيها ناقة أو جمل سوى ان السلطان العثماني أوصى ولاته بتدبير أمورهم بعملية التمويل الذاتي بالاعتماد على تجار الولاية وميسوري الحال». 

 

أسباب وجودها وطرق البناء

عن المدرسة المعمارية التي نشأت بسببها تلك الخانات يقول المعماري العراقي الدكتور علي ثويني: «إن (الخان) هو محط رحال التجار في مدن الطريق بغرض الترويج للبضاعة أو الاستراحة من عناء الطريق على أبعاد محسوبة بحسب طاقة المسافر والأنعام وهي بحدود 35 كلم، ويعني وجوده في مكان عن تضافر البناء وأمان الدرب، فيهب دفق مكاني، يجعله مكانا مقصودا ومباركا به، حتى تقمصته بعض أسماء المدن. وقد انتشرت تلك المعالم على طرق القوافل منذ القدم ولاسيما في العصور التي سبقت الإسلام في مدائن تدمر والحيرة والحضر والبتراء ومدائن صالح وكذلك مكة المكرمة».

ثويني أكد في بحثه انه قد اضطلعت زوايا المتصوفة المنقطعين وكذلك الأديرة المسيحية، في لعبها دور محطات سفر في البوادي وطرق القوافل، وقد اتخذت في العصور الإسلامية طرزاً مختلفة تبعا للمدرسة المعمارية التي نشأت في كنفها ونعتت بأسماء مختلفة فهي (مسافر خانه)، و(خان) أو (خان السلطان) أو (التيم) وكلها فارسية، أو (القيسارية) في الشرق وهي رومانية و(كارافان سراي) في آسيا الصغرى والبلقان وهي تركية وتعني (قصر القافلة) و(وكالة تجارية) في الشام ومصر و(فندق) في المغرب العربي والأندلس و(سمسرة) في اليمن، وترد في قاموس «لسان العرب» كما يوضح ثويني بأن خان كلمة واردة من (المخِّنة)، وتعني وسط الدار أو الفناء أو حتى الحرم، وتعني كذلك مضيق الوادي ومصب الماء من التلعة للوادي، وفوهة الطريق..الخ، والخانات تشكل جزءا من النسيج الحضري والعمراني واختلف تصميمها من مكان لآخر، وعموما فإنها خالية من الأبراج التي تضطلع بمهمة الحماية والمراقبة. وقد بدأ شيوعها متأخرا في الممالك الإسلامية الغربية، إذ بدأت من الحاجة الى فنادق لإيواء الغرباء المارين بالمدينة أو المروجين لبضاعتهم فيها، وكانت بالبداية أشبه بالأسواق الكبيرة وكان هؤلاء التجار يصفون بضاعتهم في أسفلها وينامون في أعلاها ويغلقون أبوابهم بأقفال رومية كما ذكر ذلك (المقدسي)».

 

تهديم أغلبها

عطية بين لنا ان «مقابل خان الدجاج يقع خان الصابون، وهناك خان المعاضد، والفرفوري والقشطيني، وخان (روبين شمعون) المجاور لخان «الباجه جي» وهو الآن متخصص بالعطارية بعد أن كان محال للصيرفة، وهناك ايضا «خان جني مراد» في مدخل الشورجة وهو من الزمن العثماني، وسبب تسميته بهذا الاسم فإنه إثر احتراق الخان وانهيار الحائط الذي في جبهته ظهرت وراء المبنى مبانٍ اخرى وسراديب، فظن الناس ان البناء الذي ظهر كان من عمل الجن وقد زال عن الوجود الآن، وهناك ايضا (خان قبوجي كهيه سي) الذي هدم مؤخراً وتحول الى دكاكين لبيع الزجاج، و”خان مخزوم” الذي تحول الآن لمحال لبيع الصابون بعد أن كان أكبر سوق لتجار التتن». وأكد عطية أن «العديد من المباني القديمة قد تعرضت للهدم مثل الخانات التراثية كـ”خان الاغا الصغير والكبير” و”خان الأمين”، و”خان الحاج عبد العزيز” الذي تعرض الى حريق كبير استمر لمدة سبعة ايام عام 1914 كما بين محدثنا». تركنا حرائق الخانات ودمارها لعل في الأفق تلوح مطافئ الأمل لحرائقنا التي لا تحصى.

قد يهمك أيضاً