حوارات وتحقيقات

جواز السفر.. بارومتر قياس القوة السياسية والاقتصادية للدول

 

أشكال وأنواع

جواز السفر في كل دول العالم كتيب صغير، يتصدّر غلافه شعار الدولة التي أصدرته، ويمكن بواسطته التنقل بين الدول، موفراً الحماية لحامله، سواء كان مواطناً عادياً، أو مسؤولاً، أو دبلوماسياً. وبحسب الغاية منه، وصِفة الشخص الذي يحمله، اختلفت جوازات السفر في أشكالها ودرجات أهميتها، فهناك «جواز السفر الدبلوماسي» الذي يحمله موظفو الدولة، طبقاً لقواعد دولة معينة. وأحد أنواع جوازات السفر، هو جواز السفر «الرسمي» أو «الخدمي» ويُمنح لأشخاص يتعيّن عليهم تنفيذ مهمة محددة في خارج البلاد مثل التدريب أو الدراسة لفترة معينة أو حضور مؤتمر، وتنتهي صلاحية هذا الجواز بانتهاء المهمة. بالمقابل، اعتاد أصحاب المناصب البرلمانية والحكومية في أغلب دول العالم، على حمل جواز السفر «الخاص». وتصْدر دولُ، جواز سفر «الغرباء» لأشخاص مقيمين فيها، لأجل غاية معينة قصيرة الأمد. ويضطر الشخص إلى حمل جواز السفر «الطارئ» أو «العاجل» حين يفقد جواز سفره الأصلي، فيقصد سفارة بلاده، في الدولة المعيّنة، للحصول على وثيقة سفر يستطيع بواسطتها من إكمال مشواره في السفر، ومن ثم العودة إلى بلاده. فيما يحمل رجال أعمال، وأصحاب مصالح في دولة معينة، جواز سفر «الأعمال» بعدما بات واضحا ان هؤلاء يترددون بشكل دؤوب على الدولة بسبب الأعمال والمشاريع والعقود العلمية والاقتصادية، وما إلى ذلك. والمثير إن بعض الدول الكبرى مثل روسيا والصين، تصدر جوازات سفر «داخلية» لسكانها لغرض ضبط هجرة الأشخاص وانتقالهم من مكان إلى آخر، في سبيل السيطرة على احتمال الانفجار السكاني. ومقابل جواز السفر «المحلي»، هناك «جواز السفر العالمي» الذي تصدره «World Service Authority» بناءً على المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تقضي بحق الفرد في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه متى شاء.

 

أول جواز

وتقول المصادر التاريخية، إن هذه الوثيقة التي تتيح الانتقال من بلاد إلى أخرى، ظهرت مبكراً في التاريخ، في رسالة لخادم الملك الفارسي اردشیر یكم، منذ نحو 450 ق.م، حين أراد السفر إلى «الحاكم خلف الأنهار» طالبا منه الأمان عند مروره بأراضيه، فيما يرجع أقدم جواز سفر صيني إلى العام 1898. وفي 1641، أصدرت بريطانيا أول جواز سفر لا يزال متحف لندن محتفظا به، ويظهر على صفحاته توقيع الملك البريطاني آنذاك شارلز الأول، حيث جرت العادة على أن الملك هو من يوقع تلك الوثائق إلى حدود العام 1794 حين أصبحت الجوازات تحمل توقيع وزير «دولة التاج»، فقط. وفي عصور أوروبا الوسطى، كانت وثائق السفر تحتوي على أسماء المدن والبلدان التي يمكن لحامل الوثيقة زيارتها.

وفي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت جوازات السفر تستخدم بشكل موسع للسفر الدولي، فيما مُنع في أثناء تلك الفترة، الأفراد من ذوي المواهب المفيدة، من السفر، منعا لفقدان البلاد لخبراتهم. ولم يستقر شكل ومضمون جواز السفر الحديث إلا في العام 1920 حين عقدت مؤتمرات دولية في ذلك العام، والأعوام التي تلته، والتي أوصت بأن يكون جواز السفر في شكل كتيّب صغير مكتوب بلغتين على الأقل، وأن يكون صالحا لفترات زمنية معينة.

 

قوة الوثيقة

تفخر الأمم اليوم بقوة جواز سفرها باعتباره رمزاً لكرامتها، والدولة المهابة الجانب، هي التي يسافر أبناؤها بحرية مطلقة في أنحاء العالم المختلفة، فيما توضع العراقيل أمام حاملي جوازات السفر «الضعيفة». هذا الأمر دفع إلى تأسيس مكتب الدراسات الدولي «هينلي آند بارتنرز»، لقياس مدى قوة جواز سفر ما، وذلك اعتمادا على مدى سهولة تنقل مواطني بلد ما بين دول العالم. وفي أحدث تقرير له في كانون الأول 2015 تصدّر جوازا سفر كل من دولتي ألمانيا والمملكة المتحدة البريطانية التصنيف العالمي، حيث يستطيع مواطنوهما السفر إلى 173 وجهة حول العالم دون حاجة إلى تأشيرة (الفيزا)، تلتهما دول فنلندا والسويد والولايات المتحدة الأميركية بإمكانية سفر نحو 172 وجهة في العالم، فيما يستطيع مواطنو كل من الدانمارك وفرنسا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية السفر إلى 171 دولة وإقليما. غير أن العرب كانوا في المرتبات الدنيا في سلم التقييم، عدا أن جواز السفر الإماراتي احتل المرتبة 40 عالميا مع إمكانية السفر إلى 114 دولة، متبوعا بجواز السفر الكويتي في المرتبة 63 ثم قطر في المرتبة 66، تلتها عمان في المرتبة 72، والسعودية في المرتبة 74. ولم يكن ذلك بغريب، ذلك أن الدول العربية التي يربطها التاريخ المشترك واللغة الواحدة فشلت في احترام جوازات سفر مواطنيها، فكل مواطن يعاني الأمرّين وهو يتنقل بين دول العرب، فكيف له إذا ما سافر خارجها. ولعلّ هذا أفقد ثقة العربي بجواز سفره وراح يسعى إلى اقتناء وثقة سفر دولة قوية مثل فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة، مفتخرا به، ومفضلا إياه على وثيقة السفر لبلده الأم.

 

خرائط الهجرة

ويتعدى جواز السفر أهميته كوثيقة للتنقل والسفر إلى كونه يرسم خرائط الهجرة البشرية، والأيدي العاملة بين البلدان، وهذا الأمر دفع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى التأكيد على أن معدلات البطالة سترتفع في الاتحاد الأوروبي إذا ألغي نظام التنقل بدون جواز سفر في إشارة إلى رفض إلغاء معاهدة «شنغن» التي تتيح حرية التنقل للعمال والمواطنين الأوروبيين. وعلى عكس الدول العربية، فإنّ مواطني الاتحاد الأوروبي، يتنقّلون بحرية بين بلدان الاتحاد، فيما خطت دول الخليج العربي خطوة نحو إلغاء جواز السفر، إذ لا يحتاج مواطنو هذه الدول لجواز السفر للتنقل بين دولهم، بعد أن سمحت التشريعات، التنقل ببطاقة الهوية الشخصية. وفي الكثير من الحالات كان جواز السفر سلاحا بيد الدولة تسحبه متى شاءت، ومن أي شخص يعارض سياساتها، وتجد فيه خطراً على نظامها، ففي 22 تموز 2015 أعادت الصين جواز سفر المعارض آي ويوي، بعد مضي أكثر من 4 سنوات على مصادرته. وعلى منوال التسخير السياسي لجواز السفر، أولى تنظيم «داعش» الإرهابي أهمية كبيرة لهذه الوثيقة، وحرص على توفيرها لأفراده لتسهيل تنقلهم بين البلدان للقيام بالمهمات الموكلة إليهم، مسخرا الإمكانيات التي تجعل منه قادرا على إصدار جوازات سفر مزورة بدت نسخة طبق الأصل من الوثائق الحقيقية بعد استيلائه على جوازات سفر «بيضاء»، وآلات لطباعة الكثير من أنواع الوثائق الشخصية من جوازات السفر وبطاقات تعريف شخصية وفق صحيفة «فيلت آم زونتاغ» الألمانية في عددها في 20 كانون الأول 2015.

 

انفلات أمني

وكنتيجة للانفلات الأمني في المناطق التي يحتلها «داعش» في العراق وسوريا، نجح آلاف المهاجرين من تلك المناطق في الحصول على جوازات سفر مزورة للدخول إلى أوروبا، ما دفع جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الاتحادي لإحدى لجان مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة إلى التحذير من قدرة داعش على إصدار جوازات سفر مزورة، فيما قالت صحيفة «لوفيف» البلجيكية في 3 كانون الثاني 2016 ان جوازات سفر مزورة، يتم إصدارها في مناطق يسيطر عليها داعش، والتي يستعملها بعض اللاجئين لدخول الدول الأوروبية، ما أثار مخاوف أمنية كبيرة في هذه الدول. وقد وقع ما كان جيمس كومي يخشاه، حين قدّم العثور على بصمات في جواز سفر سوري قرب جثة أحد المهاجمين في باريس، أدلة على منفّذي هجمات باريس في 13 تشرين الثاني 2015، وكيف تمكنوا بواسطة جوازات سفر غير «مشكوك» فيها من التحرك بين الدول الأوروبية. ويتحدث المترجم عليوي المنزلاوي، عن ألوان من قوس قزح تجمع بين جوازات سفر الدول المختلفة، فثمة دول اختارت اللون الأخضر لوثائق سفر أبنائها مثل السعودية وباكستان وبنغلادش وإندونيسيا بوصفها دولا ذات أغلبيات مسلمة. فيما دأبت دول متحالفة سياسياً واقتصادياً، على توحيد ألوان جوازات سفرها، في دلالة على أهمية التنسيق حتى في التفاصيل الصغيرة، ومنها ألوان جوازات السفر، فأعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ميّزوا أنفسهم بجوازات سفر خضراء، فيما اعتمد أعضاء الاتحاد الأوروبي، جواز سفر أحمر داكن، وفق موقع «Vox» الأميركي. وتستخدم مجموعة دول الإنديز، في أميركا الجنوبية اللون الأحمر الداكن في جوازات السفر، فيما استقرت الولايات المتحدة على خيار اللون الأزرق لجواز سفرها بعدما شهد تبدلات عديدة في لونه.

لقد كانت أعظم المصائب في تاريخ البشرية، تلك الشعوب التي تسببت الصراعات السياسية والحروب، في فقدانها لهويتها الوطنية، إلى الحد الذي لم تعد تمتلك فيه جواز سفر، مثل الفلسطينيين الذين لم يكونوا يمتلكون جواز سفر يحمل اسم دولتهم وعلمها، إلى وقت قريب، فيما تسبّبت الحروب التي مر بها العراق منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) في فقدانه لهيبة جواز سفره الذي بدأ يسترد عافيته منذ 2003. وعلى رغم اختلاف أشكال ومضامين جوازات السفر، بحسب دول العالم، فإنّ المشترك بين الشعوب، انّ الوطن لا يمكن أن يتحوّل إلى حقيبة، كما ان المواطن بجواز سفره، ما هو إلا مسافر سيعود إلى وطنه حال انتهاء مهمته في البلدان الأخرى، وليس مهاجراً أبدياً عن البلاد الأم.

قد يهمك أيضاً