تحقيق / فهد شاكر المياح
سألنا احد المارة “اهذه وهران ام اللاتينية ” ؟ فضحك وقال : (انها الحميدية).
الحميدية, ومن لم يتسنَ له معرفتها, هي واحدة من عديد المناطق العشوائية في بغداد, وتقع الى الجنوب من مدينة الصدر ببغداد, قصدناها عقب موجة الروايات المنقولة عن احوال هذه المنطقة, وبالاخص الحديث المروي من بعض المواطنين عن تحولها الى مرتع للقوارض, وتحديدا “الجرذان”
سؤال عن مدخلها الرئيسي؟
في الشارع المحاذي للحميدية, المخترق لمدينة الصدر بشكل عرضي, المعروف باسم شارع “السدة” وقفنا لبرهة زمن, مطلقين تنهداتنا للعنان, بعد ان تعذر علينا معرفة اي منفذ نختاره للولج الى “الحميدية” لكونها لاتمتلك منفذا رئيسيا, واغلب “فتحات” الدخول صيرت الى مكبات للنفايات, ومستنقعات من الوحل, وبعد مضي برهة زمن, رجونا بعض المارة ان يرشدونا الى مدخل “الحميدية” وجميعهم اتفقوا على اجابة واحدة “انى شئتم دخلتم الحميدية”
جرذ..يلتهم رأس رضيع
بعد ولوجنا الى عشوائيات “الحميدية” مضينا في تجوالنا حتى توقفنا عند دكان “ابو حسن” ولم يكن دكانه بذلك المحل الواسع والمتين, فجدرانه بنيت بطابوق اللبان, وسقفه من السعف والاعمدة الخشبية, وبعد ان اطلع صاحب الدكان على هويتنا, سألناه عن حكاية هذا الحي مع الجرذان, فأجابنا قائلا : (القصة طويلة جدا, تعود الى سنوات خلت, ربما وان لم تخنّي ذاكرتي, فالجرذان ظهرت في العام 2005, ومنذ ذلك التاريخ اخذت هي بالتكاثر “اي الجرذان” وبدأنا نحن حربنا ضدها, وللاسف الشديد, لم نجد من معين اوسند لنا, الامر الذي ادى الى هزيمتنا واستسلامنا لهذه القوارض وامراضها المميتة, حتى وصل الحال الى التهام القوراض لاقدامنا ورؤوس صغارنا, فقبل ايام قليلة وجد احد الجرذان برضيع جاري “ابو فاطمة العيساوي” لقمة سائغة, فمخر رأسه مبتدئا بجبهته, ولولا العناية الالهية, وسرعة نقله الى المستشفى لمات ذلك الرضيع).
بعد حديث ابو حسن عن معاناتهم وحرابهم المستمر مع الجرذان, طلبنا منه ان يرشدنا الى منزل الرضيع الذي مخرت رأسه حفنة جرذان, فتوجهنا بمعيته الى بيت “ابو فاطمة العيساوي” وعقب وصولنا تبين ان رب الاسرة لم يزل خارج المنزل منهمكا بعمله, فرجونا زوجته ان تطلعنا على حكاية صغيرها, فقالت وهي ملتفة بخمار اسود : (في فصل الصيف, ونظرا لانقطاع التيار الكهربائي, نعمد الى افتراش باحة منزلنا وتصيّرها الى مخدع للنوم, وفي شهر اب الماضي, وبعد انتصاف الليل, ايقظني صراخ رضيعي اللامتناه, وحين اضجعته بين ذراعتي, لم يتضح لي من اي شيء يتألم ويبكي, حتى استيقظ زوجي وسلط مصباح ولاعة سكائره على وجه ابننا, حين ذاك صرخت وولولت, بعد ان هالني وجهه المضمخ بدمه, وفي غضون ذلك شاهد زوجي ثلاثة جرذان, وهي تلوذ بالفرار من خلال ثقب صغير في سياج المنزل, وبادئ ذي بدء, لم نعتقد البتة, ان كل ماجرى لابننا تقف وراءه حفنة جرذان, حتى اخبرنا الطبيب بذلك بمستشفى العلوية للاطفال) وتكمل : (في المستشفى وعقب تضميد جراح ابني الرضيع, تحفظوا عليه خوفا من اصابته بأحد الامراض التي تنقلها القوراض للانسان, فمكثت واياه طوال اسبوع كامل في الردهة الخامسة, والحمدلله لم يصب بأي شيء, باستثناء بعض الندب في جبهته)
الغنغرينيا…هدية الجرذان لـ”الحميدية”:
بعد حديثنا مع ام فاطمة, عدنا الى نقطة انطلاقنا الاولى من دكان “ابو حسن” هناك مكثنا لبعض الوقت نتجاذب اطراف الحديث مع مضيفنا, فأخبرنا عن مرض الغنغرينيا “الغنغري” المستشري في هذا الحي العشوائي نتيجة عضات الجرذان, ومرة اخرى طلبنا منه ان يرشدنا الى الاشخاص المصابين بهذا المرض, وبعد ان اسند “ابو حسن” مهمة ادارة دكانه الصغير لاحد ابنائه, انطلقنا بجولة طويلة, لم تنتهِ حتى انتصاف النهار, واول بيت طرقنا بابه, كان منزل الحاج ” ابو ماجد الدفاعي” الذي الفيناه مضطجعا على ارض بيته الرطبة, وبساق مبتورة من مفصل الركبة, وبعد اصول الضيافة, سألناه ان يخبرنا عن سبب حالته هذه, فأجاب “كله من اليريذية” !! عقب جوابه المقتضب, طلبنا منه ان يحدثنا بشكل مفصل, فاستطرد يقول : (قبل شهر من الان, واثناء نومي, ايقظني الم لايطاق, في قدمي اليمنى, وحين تفحصتها, عثرت على جرح في اصبع الابهام مع سيل من الدماء, وفي صباح اليوم التالي, تورم الاصبع اعقبه القدم ومن ثم الساق, ونظرا لتأخري في تضميدها وتداويها, اخذت ريح التفسخ والنتانة, تضوع منها, فعمدت الى مراجعة مستشفى الكندي, وفي الحال امر الطبيب ببترها, بعد ذلك اخبرني ابني البكر,انه في الليلة التي قضم فيها الجرذ اصبعي, شاهده يطوف حوالي, متحينا الفرصة لالتهام اي جزء من جسدي)،
حسنا ياحاج, اوهناك حالات مماثلة لحالتك هذه, فجارك اخبرنا ان هذا المرض, بات مستشريا في حيكم هذا ؟
نعم, فقبل اصابتي , تعرضت جارتنا العلوية “ام رقية” للاصابة بالغنغرينيا, وكذلك الكهل الاعزب “ابو غايب” وهناك حالات اخرى ولكنها بعيدة بعض الشيء عن مسكني, علمت بماجرى لها من خلال ثلة من ساكني هذه المنطقة, واغلب المصابين, تعرضوا للبتر, وحالات اخرى, وافاها الاجل.
حكايات موجعة..من قطاع (صفر):
خرجنا من الحميدية, ومضينا لنكمل جولتنا بين قطاعات مدينة الصدر, ولم نتوقف الا في قطاع “صفر” الواقع في منتصف الطريق بين منطقة “الحبيبية” وشارع الداخل, “صفر” لم يختلف كثيرا في تصميمه وهيئته, عن الحميدية, لكن البون بين الاثنين, يكمن في ما رواه لنا ساكنوه, عن الحوادث التي سببتها لهم الجرذان والفئران, فأحد الساكنين هناك ويدعى “كرار عبد النبي” اخبرنا ان منزل جاره قد احترق بالكامل, بسبب جرذ, حينذاك طلبنا منه ان يتحدث بشكل مفصل. فقال : (قبل شهرين تقريبا, وعند منتصف الليل, خرجنا من منازلنا بعد موجة من الصراخ والاستغاثة, فألفينا منزل جارنا “ابو رسول” موارى بلهب النيران, حاولنا اطفاءه, ولكن محاولاتنا باءت بالفشل, وفي صباح اليوم التالي, سألنا صاحب الدار المحترق, عن الاسباب التي ادت الى اندلاع الحريق فقال “اصطدت جرذا بواسطة مصيدة حديدة, وحين حاولت قتله بواسطة سيخ شي اللحم, وجدته صلبا ولايمكن قتله, فسكبت البانزين فوق جلده واضرمت فيه النار, وبعد برهة زمن, انتشرت في المنزل رائحة نتنة, فعمدت الى اخراجه من المصيدة ورميه خارج المنزل, متوقعا انه قد مات, وما ان رميته الى الارض, حتى هرول الى داخل المنزل, وولج في المسافة الصغيرة الفاصلة بين الحائط, والافرشة القطنية المرصوفة فوق الارض, حين ذاك ارتفعت اوار النيران بشكل سريع, فالتهمت ستائر البيت والكوميدينو, وحين حاولت اخمادها, اصبت بحالة اختناق, مما تعذر علي فعل اي شيء تجاهها” ) بعد ان سرد علينا “كرار” حكاية جاره, انبرى صديقه قائلا : (كما تعلمون فإن اغلب بيوت قطاع صفر, تفتقر الى السقوف الكونكريتية, واغلب السكان يعمدون الى استخدام حصائر القصب “الباريات” والاعمدة الخشبية, وكذلك الحال بالنسبة لمنزلي, وفي سياق هذا الامر نواجه مشكلة لاحل لها, الا وهي ان بعض القوارض وتحديدا “الجرذان” ترتقي الى هذه السقوف المحض خشبية, ويتعذر عليها النزول منها, فتظل هناك حتى تموت, ونظرا لصعوبة تسلق الجدران والوقوف فوق هذه السقوف, فأن هذا الحيوان النافق, يبقى في مكانه حتى يتفسخ بشكل كامل, واثناء وقت تفسخه, تتضمخ البيوت بروائح النتانة المقرفة).
انتم كسكان هذا القطاع, الم تحاولوا التخلص من النفايات المتناثرة على الطرق وعلى ابواب المنازل, فهي المسبب الرئيسي في تكاثر وتواجد هذه القوارض؟
نعم, كانت لنا محاولات عدة, ولكن الازدياد المطرد بعدد البيوت والسكان, وافتقار القطاع الى اماكن لرمي النفايات وقلعها, يقف حائلا بين سعينا للخلاص من هذه الجرذان.
امر اخر..خطير
عدد من سكان قطاع “صفر” ذكروا ان القوات الامريكية, وابان احتلالها للعراق, افرغت في بعض القطاعات, حمولة الصفائح الورقية “الكارتون” المترعة بالجرذان. ومنذ ذلك الوقت, اخذت هذه القواض بالتكاثر والظهور بشكل ملفت للنظر,
القوارض..تسبب اكثر من 20 مرضا
من مدينة الصدر..
توجهنا الى عيادة البيطرية “رنا عبد الواحد” التي التقيناها قبل ايام اثناء اجرائنا تحقيقا صحفيا عن ظاهرة الذباب والبعوض, وعن سؤالنا حول الامراض التي تسببها الجرذان واماكن تكاثرها اجابتنا قائلة : (في بادئ الامر سأحدثكم عن الامراض التي تسببها للانسان, فالجرذان سبب رئيسي للاصابة بأمراض “التسمم الغذائي, الطاعون, التفوئيد, الديدان الشريطية, الزحار الاميبي, السحايا, وداء القطط, الغنغرينيا” اما طرق انتقالها الى الانسان فنوعان, الاول عن طريق الملامسة, فهذه القوارض ذات شعيرات مترعة بالطفيليات, مثل الحرمس والقراد, والطريقة الاخرى هي”العض”وهي حالة شائعة) وتضيف : (اما اماكن انتشارها وطرق تكاثرها، فهي تنتشر في الدور السكنية, والمناطق المظلمة والرطبة, وهي تتكاثر في الاماكن التي يتواجد فيها الانسان, متخذة من مخلفاته قوتا لها, لذلك فإنها تنتشر في الاماكن المترعة بالنفايات, اما انواعها فعديدة منها “اليربوع, الفئران والجرذان, والقندس والسنجاب” والفئران تعيش لمدة لاتتجاوز ثلاثة اشهر, اما الجرذان فيكون عمرها مايقارب عاما ونصف العام).
كأخصائية بعلم الحيوان, بماذا تنصحين الموطنين للخلاص من هذه القوارض؟
تقول :قبل ايام وجهتم لي سؤالا عن كيفية الخلاص من الذباب, واجبتكم من خلال النظافة, واليوم اكرر الاجابة ذاتها, مع بون صغير, فالخلاص من القوارض يحتاج الى توعية المواطنين بخطورتها, اضافةالى استخدام المبيدات والطعوم السامة.
نهاية الرحلة
اسدل الضياء ستاره ونحن في عيادة البيطرية “رنا عبد الواحد” وحين عزمنا على مغادرتها, فوجئنا بظهور عدد من “الجرذان” في باحة العيادة, فقلنا لمضيفتنا “انتِ اكثر الناس علما بخطورة هذه الحيوانات, وعيادتك ترفل بها) فضحكت وقالت : (كان الله بعون المواطنين, فهو ارحم بعباده من ثلة الفاسدين).