ثقافة شعبية

وقفة مع الغني الفقير

احمد الشيخ ماجد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لا اعرف ماهو التناقض بين اسم غني محسن, والحياة التي عاشها, وماهو السر في هذا, حيث انه على الرغم من اسمه, لكنه عاش فقيراً طوال حياته, وفقره مدقع, وموجع. وفي اعتقادي ان الأسم يشي بغناه واحساسه الشعري الذي يفتقر له الكثير . فقد كتب الشعر بحس جمالي مقتدر, يلامس عمق الاحساس, ويسمو بالمشاعر الانسانية الباحثة عن الجمال . على العكس من الكثيرين الذين يكتبون القصائد التي سرعان مايطويها النسيان . حيث يوجد من الشعراء من يتعمق في مايدركه ويحسّه في حياته, او مايبصره من آلام اجتماعية كبيرة, فنقرأ شعره ونحس وكأننا نعيش نفس الالم الذي يمر به الشاعر, وكذلك نشعر بالراحة والمتعة ذلك انه دخل الى قلوبنا, وكذلك انه ينّفس عما في نفوسنا بما يكتبه قلمه, واستطيع ان اقول ان غني من اصحاب الاحساس الحاد الذين يدخل شعرهم الى القلوب من دون استئذان . غني محسن شاعر موهوب ومختلف عن ابناء جيله, ولد في سنة 1962 في محافظة ميسان, وانتقل بعدئذ مع عائلته الى بغداد مستقرا فيها. يمتاز غني محسن بدماثة الخلق, والتواضع الجم, وطيب المعشر حتى ان ادبه وخلقه الرفيع, جعله يضحك امام الناس والابتسامة لاتفارق محياه, على الرغم من الاحزان التي تثقله, ويذكر هذا في احدى قصائده : ( يم الناس اضحك ضحك خالين . بس وحدي من ادمع انكَلب ناي!). دخل معترك الشعر الشعبي في اواسط الثمانينيات مركزا على اسس قوية ليرتقي بنيانه الشامخ في فضاءات الشعر الشعبي, أول قصيدة ظهر بها والتي اثارت انتباه الادباء آنذاك حيث كان للقصيدة صداها, سرعان ما انتشرت في المعترك الادبي, يقول فيها: ( انتهى بلحظة العشك والشوكَـ والهمسة . مثل جنح الفراشة الينتهي بلمسة . موذاك انته الاول يفرح لفرحي . اجيتك عود اداوي بشوفتك جرحي . بس كلمة اسمعتلك ..تكبر وتنسه). لم تكفه فضاءات القصيدة بل خاض في ميدان الاغنية وكان احد مبدعيها حيث كتب اغنية شاعت في الاوساط عند اصدارها للمطرب عبد فلك وكان مطلعها : ( انه ابدونك اروح الوين غريب امتّيه الخطوة . انه ابدونك اخذني الماي مثل اوراق ماتسوه). الحديث عن هذا الشاعر لابد ان يتخذ الجانب الذي كتبه بغزارة, وهو الحزن والوجع والالم الذي يمر به, وهذه الآلام قد صارت محوراً اساسياً في معظم ماكتبه غني محسن, فأنه حينما لايجد طريقاً للخلاص من الاوجاع التي تلفه يلوذ بوجعه ليرسمه لنا عبر لوحة جميلة وآخاذة تتميز بسحر يطرب الاذان وتهفو له النفوس: (ماظل بالصدر شباچ مفتوح . ونزل ويه الدمع دخان الجروح . كل ونه اتحزم من يجي الليل . واخلصها مسية والده اتنوح . تدگ فوﮔـﭻ الغربه وما تموتين . الله شـﮕواتـﭻ صرتي ياروح . مستورة اشوف اجروحها الناس . تسد بيبانها وبس جرحي مفضوح) انه في هذه القصيدة يبرهن على قوة حزنه وجرحه الغائر في اعماق نفسه, حيث لا يستطيع حتى ان يخفيه عن الانظار فأنه دوماً مفضوح . لذا تراه في قصيدة اخرى يفصح عن حزنه مخاطباً خصمه بأن الهموم قد صقلته حتى جعلت من رأيه واحد لايتغير فأن الحزن يولد في الانسان بعد النظر والذكاء المتوقد الذي لايرقى اليه من يعيش مترفهاً في حياته:( روح العب بعيد شجابك وياي , انه دربي طويل ايتعب هواي , زماني الما خطاني شلون يخطيك , وانتَ الخطوه الك بيهه اثنعش راي , انه بكد ما عشت خلتني الهموم , عظم هدهد وافوجن عكس بالماي) واحسب ان الشاعر كان موفقاً في استخدامه عظم الهدهد فان هناك خرافة يتداولها المجتمع العراقي تقول ان عظم الهدهد هو جالب للمحبة في قلوب الناس لذلك تجد سعره في العراق غالٍياً جداً . وبهذا افصح الشاعر عن اهميته في قلوب الناس وان الحزن اضاف لهذه الاهمية رونقاً وبهاء لانها خلفت مميزات كثيرة يتمتع بها, وكذلك يذكر في ذات القصيدة ان الفقر قد فرغه من كل مالديه, ولا يخاف على اي شيء يمتلكه, واثر هذا انه يستطيع ان يسكن اينما اخذت به الامواج : ( مشاني الصبر تك رجل وياه , على احباله توازن عدل ممشاي , ما عندي حمل يطشر ابريح, اجودر وين ما ذبتني دنياي). روائع هذا الشاعر قصائد مشجية, كتبها والدموع تنهمر من عينيه وهي لذلك سرعان ماتؤثر في قارئها لان غني محسن بللها بدموعه وهو يخطها, ولانها تصور الماً حقيقيا لعل الجميع يمر به اذ ان العراقي دوما مهموم . انظر وخزة الالم في صدره عند كتابة هذه القصيدة : (حسره وبالكَلب كل يوم تتكسر , الدمع رايدله حيل وانه ما اگدر , كون من ابچي اذب دمعه اعله طولي اگدر . يسفان الونين التسري بين اعضاي , مرساك الگلب وبدمي دگ انكر , مدام الدنيه ضاگت وين ادير العين , لا جدحة امل لا ليلها اتغير , ومن طالت الحيره استاهدت عراف , اذب حمل القضيه اعليه واتكتر ). ان الدنيا لم تترك غني ابداً فهو لاتفارقه الملمات ابداً, وليس له إلا الورق يسكب عليه آلام واوجاع الحياة عسى ان يشفي ظمأه ويطفي غلته, ولعل هذا لايكفي فنحن دائما نراه يتغنى بالموت ويطلبه ذلك ان عذاباته واوجاعه لا تكاد تنتهي فكل شيء يسقط في قلبه وهو يراقب آماله بالحياة واحلامه لاتريد ان تتحقق ابداً وانه اثر هذا يريد ان يحثو التراب عليه وعلى اوجاعه التي خلفت الاحباطات الكثيرة : ( اريد امشي اعله كَبري بغير جناز , اموتن وادفن احباطاتي وياي). انه في هذه الابيات يمهد لرقاده الاخير, وكأنه يشعر بالموت سيعتقه من احزانه وتندمل جروحه وتكف تلك الانتكاسات والاحباطات التي كانت تحاصره في حياته فقد خر صريعاً سنة 2007 على ايدي الارهاب وترك لنا قصائد متدفقة يكاد يشعر بها كل عراقي, ذلك ان العراق لا يخلو من الاوجاع والاحزان ابدا .

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان