ثقافة شعبية

الدروس التربوية من الحكايات الشعبية الموصلية

عبد الجبار محمد جرجيس

 

في سنة 1962 اصدر مركز الفلكلور العراقي في وزارة الثقافة والارشاد العراقية انذاك كتاب (حكايات الموصل الشعبية ) للمؤلف المرحوم احمد الصوفي . احتوى هذا الكتاب على (22) قصة شعبية او حكاية موصلية ، يومها كانت الحكايات الشعبية اهم وسائل الاستماع للعائلة الموصلية خاصة في ليالي الشتاء الطويلة والبرد القارص .

 

كانت ربة البيت او الجدة تحكي لنا هذه الحكايات الشعبية المتوارثة ، ومنهن من يزيد او ينقص من هذه الحكاية تبعا لامكانية حفظ النص الذي يستمعه ، تبدأ الحكاية بعد الحاح الاولاد على امهم او جدتهم لتحكي لهم حكاية ، وعادة تبدأ بالحكاية بقولها : بسم الله الرحمن الرحيم : كلمن علينو ذنب يقول التوبة واستغفر الله .. كان في قديم الزمان ملك عظيم . ثم تواصل سرد الحكاية ، او تبدأ بها .. وتقول ( دحكي لكم حكاية ) والغز (الرز ) بالدني ، او بالتفيي ، ابونا علم جدنا على قبة الحجي ، بهذا الاسلوب تسرد الام وا الجدة ( الحكاية) . هذه الحكاية سبقت لها ان استمعتها من والدتها او جدتها ، وهنا يبرز الدور الفولكلوري (الشعبي) للمجتمع الموصلي انذاك . حيث تدل هذه الحكايات على معان وحكم وطرائف شعبية ، وخيال اسطوري ينقل الصبيان الى العالم الخفي ، كعالم الجن والسعلوة ، واساطير الخيال ، واستعرض القوة ونصرة الضعيف ، واستخدام الحيل والمكائد ، وفن النساء وكيدهن ، كما تبرز هذه الحكايات جانب الاصغاء والتتبع لدى الصبيان ، ويثير فيهم النقاش والاسئلة حول الحكاية ، فتنمو قدراتهم العقلية . كذلك تشير بعض الحكايات ان الزواج من الفتاة التي يحبها ليس بالامر السهل ، بل عليه تلبية مطالب اهل العروس او شروطها ، رغم المشاكل والمعوقات التي يتعرض لها ، وبالاخير يكون النصر حليفه . فضلا عن المدلول التربوي للحكايات ، ففي قصة (الخنفساء ) لاتقبل ان تتزوج من البقال او القاضي او العطار ، وتقبل بالزواج من (الجرذ ) او الجغدي ، لانها احبته وقدرها حق قدرها ، وبعد ان مات هذا الجرذ لطمت على خدها وقررت ان لاتتزوج , هنا يبرز عنصر الوفاء والمحبة والتضحية ويتقدم على المخادعة او الجاه .

 

كما تمكنت هذه الحكابات من نقد الملوك وفضح اساليبهم ، وصورت الفوضى التي تعيشها المدن والشعوب ، من حيث فقد الامن والامان وانتشار اللصوص والفوضى والقتلة والتسلط على رؤوس العباد ، كما جاء في قصة ( القاضي والجناز ) صحيفة 85 ، زكان هذا القاضي اجنبيا من خارج العراق ، وكان يخاف زوجته ، فعم الظلم والخوف والرشوة والفوضى ايام حكمه . ومن الفوضى التي سادت ان يلجأ القاضي لتثبيت الامن والاستقرار (لص ) معروف ، اختاروه ليكون مديرا للشرطة في البلدة وافراد عصابته.

 

هكذا تجد في كل حكاية من الحكايات الشعبية ، موضوعا من المواضيع الاجتماعية ذات البعد النفسي ، ففي القديم كانت الاسرة الموصلية متواضعة تعيش في غرفة واحدة ، فهي اذن نفسيا ذاقت الحرمان والرغبة في الحياة السعيدة والعيش المترف والبؤس الذي نسج تعابيره على وجوه معظم ابناء البلدة ، من الحرمان الصحي والترف ، والضعف المادي والعوز الذي عانت منه معظم العوائل اثناء الحكم العثماني ، ثم الاحتلال الانكليزي . والهيمنة الاجنبية انذاك . كانت الحكاية المتنفس لسماع البطولة والتحدي والاقدام والوفاء والعز ، ومساعدة الفقراء والوقوف للمظلومين من البشر . والحس الانساني والمحبة كانا مدلولان واضحان في هذه الحكايات . فاليل طويل ، وقد ارخى سدوله على المواطنين . وطال ، ولم ينجل لكن الخيال والسهر مع عالم الحكايات والجن ، كان الملاذ للتخفيف مما اصاب المواطنين من وهن فكري وبؤس وظلام . على الاقل كانوا يعيشون لحظات الامل في الحياة والنجاة من الظلم والفساد والظالمين .

 

انها دعوة لقراءة حكايات المرحوم احمد الصوفي ، وليس هذه الحكايات هي كل حكايات المدينة ، الا انه تمكن وحفظ جزء مهم من هذه الحكايات التي انقرضت ولم يسمع بها هذا الجيل ، او يتمتع او يستنبط العبر والحكم منها . وقد اجملها الصوفي في كتابه , وهي ! حكاية المطلقات السبع ، حكاية المرأة والنعجة ، وحكاية البنين السبعة والبنات السبع ، وحكاية الفتاة والحشيش السحري ، وحكاية السعلوة وابنها والنساجين ، وحكاية التسابق بين البخلاء وحكاية السمك في البطيخ وبمكرهن يصعد المريخ ، وحكاية الشواك والابطال السبعة ، وحكاية الرجل الذي لايعرف الخوف .. وهكذا بقية الحكايات . ما احلى من منظر صبياننا وفتياتنا من التحلق حول الام او الجدة لسماع الحكايات والعبر والتربية الصالحة ، بعيدا عما ينشر ويصور ويعرض من مغريات الحياة ومفاسد الاخلاق ، والتمرد على الخالق والخلق , مازالت الام او الجدة مدرسة الحياة والتربية المثلى . فهي اساس التربية الهادفة لنموذج الاسرة والعائلة الصالحة . خلافا لتحلق الصبيان والصبيات حاليا حول المسلسلات المتنوعة ، ومنها التي تسيء الى الذوق او تخلق بعض الافكار الضيقة نحو الحب والغرام وتفكك الاسرة وانهيار المجتمع من مجتمع ناضج سليم الى مجتمع لايساوي هذه القيم . بل يتعود على الخيانة والغدر والانسياق نحو حرية الفتاة او الفتى اذا بلغ سن الرشد والاختلاط الفاضح والممارسات اللا اخلاقية بين مجاميع الطلبة والطالبات بحجة الحرية الشخصية . فأين الان من قول الشاعر الذي يفسر القول بأن الام مدرسة اذا اعددتها …. أغددت شعباً طيب الاعراق .

 

 

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان