حوارات وتحقيقات

اليوبيل الماسي لافتتاح شارع الرشيد الأول في تاريخ بغداد

رجاء حميد رشيد 

 

يطفئ شارع الرشيد  شمعته المائة في شهر تموز 2016,الشارع الأول في تاريخ بغداد الذي يخترقها من أقصى الشمال (الباب المعظم) إلى أقصى الجنوب(الباب الشرقي),بطول 3,120 كم ,ويضم الرشيد على جانبيه كنوز بغداد وثروتها الاثارية والثقافية والفلكلورية والعمرانية والسياسية . 

وتحدثت د.غادة موسى رزوقي رئيس قسم هندسة العمارة في كلية الهندسة /جامعة بغداد عن تاريخ شارع الرشيد وحسب العقود الزمنية منذ تاريخ افتتاحه قائلة:

“بدأت فكرة إنشاء شارع الرشيد منذ نهاية الحكم العثماني في العراق سنة 1908,وتم فتح جزء بسيط منه من قبل الوالي العثماني خليل باشا و سمي الشارع باسمه (جادة خليل باشا).

وبعد الحرب العالمية الأولى 1918 عند دخول الجيش البريطاني تم فتح الشارع كليا امتدادا إلى  الباب الشرقي  ,حيث مر الشارع بعدة مراحل ولفترات زمنية طويلة لحين استكماله.

 

 البدايات الأولى لفتح شارع الرشيد

 

هناك روايات كثيرة في كيفية فتح الشارع لكون المنطقة التي يقع فيها مكونة من نسيج متضامن لان الدور التي على جانبيه متلاصقة ولا يوجد أي منفذ لاستقامة الشارع مما يصعب تحديد فتحه ,فاخذوا بعض المسارات التي كانت مخصصة للسابلة وقتذاك وبدؤوا بتعريض المسار , فكانوا يطلعون على سطوح المنازل ويمدون الحبال على الدور ثم بعدها يقررون بهدم الدور المنحرفة عنه والتي تشكل عائقا  لأجل تعديل مسار الشارع .

فتح شارع الرشيد عام 1916 وكان عبارة عن مسار وعلى جانبيه أبنية مهدمة، تمت 

إعادة بنائها وأخذت تكوينات جديدة فيما بعد والتي شكلت بداية لنهضة عمرانية في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم والتي اتسمت بملامح وخصوصية معينة ,تأثر البعض منها بالحداثة الكلاسيكية الأوربية التي كانت سائدة حينذاك ,وقسم آخر منها اتسم بكثير من الحرفيات التي كانت سائدة في المنطقة من عمال البناء والأسطوات,إضافة الى كثير من الملامح التي جلبها بعض الحرفيين من الأقاليم المجاورة  للعراق مثل سوريا ولبنان ,فتشكلت ملامح جديدة لشارع الرشيد وخاصة في الثلاثينيات ,ملامح لرواق وأعمدة تطل عليه أبنية مبنية وفق الأعراف البنائية العراقية التقليدية مع دمج عدد من العناصر الأوربية وبعض الطرز التي أعيد بناؤها في بداية العشرينيات لمعماريين متعددين وخاصة الأسطوات . 

 

تصاميم وملامح حداثوية في منطقة حافظ القاضي  

 

في أربعينيات القرن الماضي وصاعدا ظهرت تصاميم جديدة لمعماريين عراقيين من الرواد أعطوا ملامح حداثة معاصرة لهذا الشارع  منهم (جعفر علاوي,رفعت الجادرجي,محمد مكية ).

وظهرت في منطقة حافظ القاضي تحديدا أولى الأبنية المتميزة بحداثة تقليدية بسيطة تختلف عن النهج الثلاثيني الذي كان سائدا في الأبنية الأخرى التي تميزت بعناصر تقليدية داخلة مع العمارة المحلية ,فظهرت تكوينات جديدة هي الحداثة المعاصرة للأربعينيات والخمسينيات والفترات اللاحقة ,وبهذا نعتبر بداية ظهور الحداثة بالعراق في منطقة حافظ القاضي في هذه الأبنية التي لا تزال قائمة لغاية الوقت الحاضر. 

العمارة المعاصرة 

 

في ستينيات القرن الماضي بدأ المعماريون العراقيون ينهجون نهجا جديدا في تصاميم الأبنية بما يلائم الظروف البيئية والاجتماعية ,والتواصل مع الماضي ,فتكونت تطلعات للعمارة العراقية بطريقة معاصرة ومتواصلة مع الماضي ولها هذه الاستمرارية بروحية منفتحة فالحداثة الكاملة التي كانت سائدة قديما والتي لا تزال قائمة في حافظ القاضي حولت إلى حداثة لها تكويناتها ومعالجاتها المحلية ,فظهرت أبنية تميزت بتفاصيل معمارية ومعالجات مناخية مختلفة ,وظهور الأبنية الخارجة عن إطار الشارع ذي طابقين .

 

تصميم شارع الرشيد

 

إن أساس تصميم الشارع ذو طابقين ومعمد برواق الذي صار قانونا له ,وكل مبنى جديد يصمم  باستمرارية الشارع, أما المباني المختلفة فتشيد بالرجوع إلى الخلف وهذا ما نراه في مبنى (مصرف الرافدين ,والبنك المركزي ) ,حيث اتسمت هذه الأبنية المتعددة الطوابق بملامح وارتفاعات جديدة ,ثم أعقبتها تجارب أخرى في الاتجاه الآخر للشارع مثل تجربة رفعت الجادرجي في مبنى مركز اتصالات الرشيد الذي يعتبر من الأبنية المتميزة والتي أعيد إعمارها بعد أحداث 2003 . 

لشارع الرشيد بصمة لأكثر من عصر ,منذ عشرينيات القرن الماضي ولغاية السبعينيات ,ومع الأسف في الثمانينيات لم نر سوى مبنى جديد للبنك المركزي ولم يبن أي مبنى آخر لغاية الوقت الحاضر.

 

انحراف الشارع والمدرسة المرجانية 

 

وعند فتح جسر السنك في سبعينيات القرن الماضي انحرف الشارع عن استقامته الرئيسية قليلا ليمر تحت الجسر ويستكمل حتى نهايته في منطقة الباب الشرقي ,وهذا ما ذكرني ببدايات الشارع حيث لم يكن مستقيما كليا ,كان يمتد مستقيما لغاية المدرسة المرجانية التي كانت مرتبطة بخان مرجان , وهنا يضطر الشارع للاستدارة في هذه المنطقة كي لا تهدم هذه المدرسة التاريخية ,وصدر قرار من أمانة بغداد في ذاك الوقت بهدم المدرسة لإعادة استقامة الشارع, مما أدى الى خسارة هذا الجزء المهم الكبير ذي التاريخ التراثي من المدرسة المرجانية والتي أعيد بناؤها فيما بعد, ولمبنى المدرسة ثلاث قباب لم تكن موجودة في تصميمها الرئيسي ,اثنتان منها غريبتان عن التصميم والقبة الوسطية فقط هي التي تتماشى مع تصميمها القديم .

ولم يتبق من الأجزاء التاريخية للمدرسة المرجانية سوى المدخل والمئذنة فقط ,والباقي قد هدم وأعيد بناؤه عندما حاولوا جعل الشارع باستقامة واحدة.

 

شارع الرشيد منبر للثقافة 

والعلم وشاهد على الانتفاضات والاحداث السياسية 

 

يعكس شارع الرشيد الحياة الاجتماعية والحضارية والثقافية العراقية متمثلة بالكثير من الأبنية المهمة التي تعد منبرا للثقافة والسياسة والعلم ,منها جامع الحيدرخانة الذي شهد تجمع العراقيين الثوار وانطلاق ثورة العشرين, التي تعتبر من الأحداث المهمة التي كان لها الأثر في الحركة الوطنية العراقية في التاريخ العراقي المعاصر  ,كما شهد الشارع الكثير من الاعتصامات والتظاهرات والمواجهات التي حصلت في شناشيله التي تحملها الأعمدة السميكة متيحة لأهالي هذا الشارع مشاهدة هذه الأحداث عن كثب ونقلها إلى الأجيال ابتداء من استعراض الجيش البريطاني عند احتلال بغداد 1917  وانتهاء بتظاهرات انقلاب  1968  والكثير من الأحداث لعل اشهرها حادثة محاولة اغتيال الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم  1959 التي نفذتها خلية من حزب البعث يترأسهم صدام حسين وعبد الوهاب الغريري الذي قتل أثناء المحاولة  وأقيم له تمثال فيها ,وسميت ساحة الغريري باسم من أطلق الرصاص عليه ,وبعد التغيير في النظام السياسي  2003 غيرت لتمثل العكس بوضع تمثال الزعيم قاسم لتمثل حقبة زمنية تاريخية جديدة.وضم الشارع اشهر واهم المقاهي التي غنت فيها كوكب الشرق أم كلثوم التي كان الشعراء يلتقون فيها مثل مقهى الرصافي والزهاوي .

 

شارع الرشيد هوية ثقافية حضارية و أهم مركز تجاري 

 

يعد شارع الرشيد أهم المراكز التجارية للتسوق الرئيسي التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي مثل الأسواق المركزية (اورزدي باك) ومجموعة المحلات  المتخصصة على طول الشارع حتى نهايته باتجاه الباب الشرقي ومحل تسجيل اسطوانات المعروف (جقمقجي), هذه المواقع أعطت هوية ليس فقط هوية الشارع العمرانية التي رأيناها بتتابع طرازه وخطوطه المعمارية وارتفاعاته ولكن أيضا هويته الاجتماعية والحضارية والثقافية , وبالتوسع العمراني  ونشوء مراكز تجارية في كل ضواحي العاصمة بغداد ,مثل المنصور والكرادة وغيرها ,انحسر التأثير المركزي والقيمة التجارية للشارع ولجوء الناس إلى المناطق ألاخرى التي توسعت بالمدينة وصارت مناطق تجارية جديدة.وبحكم التوسع العمراني في بغداد وضواحيها الذي اثر على المراكز التجارية فيه بدأت الأبنية تهجر من قبل ساكنيها الأصليين, لتصبح الأبنية عبارة عن فنادق تؤوي الناس العاملين والبسطاء وتحول الكثير منها إلى ورش بسيطة أو مخازن  للجملة بعدما كانت تعج بالحياة والحيوية .

 

تأهيل شارع الرشيد 

 

ومنذ خمسين سنة  لم يحدث أي تغيير أو تأهيل فيه سوى صبغ الأعمدة باللون الرصاصي أو صبغ جزء من الواجهة , ,وبقيت عوامل التهرؤ بادية عليه خصوصا بعد أن شهدنا اثار الحرب وتحطم البنى التحتية والمجاري التي زادت من سوء الخدمات الموجودة.

في عام 2009 وقع عقد مع مكتب استشاري لتأهيل و تطوير شارع الرشيد ,وبدأ بأعمال المسح وجمع المعلومات وتصوير وإعداد البيانات والدراسة التحليلية ثم قدمت المراحل الأولى للتأهيل ,ولكن بسبب سعة العمل وصعوبة تفاصيله إضافة للظروف التي مرت بالعراق وأخطاء كثيرة حتى في كتابة الموصفات وعدم توفر الخبرة الكافية حينها لم يصل المشروع إلى المرحلة النهائية ففسخ العقد وأوقف العمل وسحب العقد من الشركة في عام 2012 ,ولا تزال الأجزاء الأولى من العمل موجودة لكن لم يستكمل العمل بعد! .

الآن ونحن نواجه مرحلة تاريخية عصيبة لهذا الشارع الذي سيكمل المائة عام من عمره نطمح لبداية جديدة لإعادة تأهيله بطريقة تختلف عن الطرق السابقة في قصر مشروع واحد ضخم ولكن ربما تنمو من الجزء إلى الكل عن طريق استثمارات متعددة وهذا ما نطمح إليه .

هذه ستكون انشاء الله خطتنا وحلمنا للمائة عام القادمة بإعادة هذا الشارع وبقائه الأساس في العاصمة بغداد ليستعيد مكانته في عصور أخرى متجددة تاريخيا .

 

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان