حوارات وتحقيقات

بتعاونهم مع الوسطاء والمرتشين وأفراد في المجالس البلدية المخالفون للقانون.. يشيِّدون على الأرصفة مطاعم ومحلات لبيع الخضروات

فهد شاكر المياح

 

البداية .. من الامين الثانية

الامين الثانية, هي واحدة من مدن جانب الرصافة ببغداد, وتقع الى جنوبها الشرقي. وتتكون من ثلاثة شوارع رئيسية, وعدد كبير من الأزقة. وهذه الشوارع التي تجولنا فيها الواحد تلو الاخر, ترفل بالمتجاوزين على الأرصفة, بدءاً من القصابين, مرورا بالبقالين, انتهاءً بأصحاب عربات  “اللبلبي” وأول شارع قصدناه, كان شارع “المعلمين”.

في شارع المعلمين, التقينا بالبقال “المتجاوز” (مهند الكويشاوي) وعن سؤالنا حول الأسباب التي دفعته الى بناء محل للبقالة على رصيف الشارع, اجابنا “الكويشاوي مهند” قائلا : ( في السابق, كنت اعمل في تجارة السيارات, وبعد الركود الاقتصادي الذي خيم على البلاد, تركت هذه المهنة واشرعت بالبحث عن مهنة اخرى, حينذاك اقترح علي احد الاصدقاء ان افتتح محال للبقالة في مكان ما من منطقة الامين, وبعد بحث مضني لم اجد ما كنت اصبو اليه, وفي احد الايام واثناء سيري في شارع “المعلمين” شاهدت رجلا يخرج من منزله المطل على الشارع الرئيسي, فعرضت عليه ان يمنحني موافقة ببناء محال للبقالة على رصيف منزله, مقابل مبلغ من المال, فلم تتأخر موافقته اكثر من برهة زمن, وفي صباح اليوم باشرت ببناء محالي هذا, لافتتحه بعد مرور اسبوع تقريبا).

من كلامك هذا, نستدرك ان هناك تعاونا بين اصحاب العقارات والمتجاوزين؟

نعم.. فهم يوافقون على بناء محلات البقالة او البسطات, مقابل مبالغ مالية تربو الى اكثر من 700 الف دينار.

اثناء حديثنا مع “مهند”  جاء احد الاشخاص بعد ان  ركن سيارته “كيا بيك اب” قبالة محال محدثنا, وقام بإنزال طاولة حديدية وميزان رقمي, واخذ يعلن عن بضاعته بقوله “سمج احواض كيلو بخمسة ونص” فلم يكن منا الا ان ندلف نحوه ونسأله ان كان يخشى عواقب وقوفه الخاطئ في هذا الشارع الرئيسي, وهل تجربته هذه هي الاولى له في عالم “التجاوزات” ؟ فأجابنا “ابو رقية الكويشاوي”  (الذي تبين لنا انه يمت بصلة قرابة لصاحب محال البقالة)  قائلا : (في بادئ الامر, انا بائع سمك متنقل, اجوب في اليوم الواحد عددا من  الشوارع والمناطق, وحيث ما أجد سوقا صغيرا او محال مزدحمة, اركن سيارتي وابدأ بعرض بضاعتي)

حسنا.. الم تفكر في شراء محال او بسطية في السوق, لتبيع بضاعتك, بدل تجوالك الا متناه ؟

كلا.. فكما تعلمون فإن استئجار محال, او شراء بسطية في السوق, يتطلب مبلغا من المال يزيد على اكثر من 10 ملايين دينار, وانا لا املك هذا المبلغ.

أتعلم ان وقوفك هكذا في كل يوم, وفي كل شارع, امر يخالف القوانين؟

نعم..

حسنا.. الا تخشى من نتائج مخالفة القوانين؟

كلا.. فنحن في بلد “الا دولة” فبإمكاني لو حصل ذات يوم والقي القبض علي, التملص من  هكذا موقف, بحفنة دنانير..!!

في الامين الثانية… أيضا

في منطقة الامين الثانية, هنالك ثلاث علامات دالة, تكون عنوانا للمواطنين القادمين من مناطق اخرى الى هذه المدينة, وهذه العلامات هي ” تقاطع بيت بنية, فلكة الحدادين, تقاطع الزهور” ولكل علامة من هذه العلامات, حكاية موجعة. فأولاها وليس اخراها هو تقاطع “بيت بنية” الذي يربط بين ثلاثة احياء سكنية في منطقة الامين الثاينة, اذ أمسى المواطنون ينعتونه بـ” تقاطع المتجاوزين” نظرا, للتجاوزات المهولة التي حصلت على أرصفته و حدائقه الصغيرة الشاغرة. فأصحاب المحال التجارية, عمدوا الى اتخاذ أرصفة هذا التقاطع, مخازن واماكن لعرض بضائعهم, اما الميكانيكيون “الفيترية” فقد اتخذوا مساحة من الأرض, مرأباً لتفكيك السيارات وتصليحها وغسلها. اما اكثر ما اثار دهشتنا, فهو رؤية “الفرن والمطعم” اللذين شيدا على قطعة من الارض, تعود ملكيتها للدولة, وحين حاولنا استخلاص اجابة من صاحبهما, ركب سيارته وقادها مسرعاً, لكن احد سماسرة العقارات, اوضح لنا, ان هذه المساحة من الارض, خصصت لتكون “رياض اطفال” ولم يشرع ببنائها بسبب حرب 2003. اما في “فلكة الحدادين” و “تقاطع الزهور” فالامر لم يختلف كثيرا, باستثناء نوع العمل والبضائع, التي شغلت هذه الارصفة, فبعضهم جعل من هذه الارصفة “كراجات” لمبيت و وقوف السيارات, واخرون غرفا لمولدات “الديزل”.

في مدينة الصدر

بعد ولوجنا الى مدينة الصدر من مدخل “ساحة مظفر” واختراقنا لهذه المدينة بشكل طولي, خيل الينا ان الامر الذي حتم علينا المجيء الى اكبر تجمع سكاني في بغداد. قد بات محض أخيلة, فشارع “الجوادر” المنتهي بـ”الاورزدي” الذي يضم على جانبيه عددا من الدوائر الحكومية والمستوصفات الطبية, خلا من اي تجاوزات كبيرة, باستثناء عدد من “العرضجية” الذين يقومون بطبع وبيع “معاملات” تغيير الهوية المدنية للمواطنين. وحين اوشكنا بلوغ منتصف هذا الشارع, كانت الطامة الكبرى, فأهم تقاطعات هذا الشارع والمعروف باسم “ساحة 55” صيّر الى سوق شعبي صغير, فأرصفته الواسعة والمغلفة بالطابوق الحجري, دفعت البعض الى نصب الخيم واشغالها بالبسطات الحديدية والخشبية . ولم يكتفوا بهذا القدر, بل عمدوا ايضا الى سرقة مترين تقريبا من الشارع. 

“ابو غسان المحمداوي” هو احد افراد جوقة المتجاوزين,  استطعنا ومن خلال (الحذاقة الصحفية) استخلاص اجابات منه, حول المتعاونين معه, في هذا التجاوز, فقال : (والله ياعمي بينه بخت بالعرف و الواسطات, لو ما همه جان شيلونه)

قلنا له.. وكم يتقاضون منكم لقاء هذا التعاون ؟

في بعض الاحيان, يطلبون مبالغ خيالية, ولكننا اتفقنا على دفع مبالغ مالية, عند اول كل شهر, لقاء تعهدهم بعدم المساس بنا.

تقريبا.. كم يكون المبلغ؟

من 500 الف دينار الى مليون دينار, حسب موقع المحال او البسطة.

في مدينة الصدر.. أيضا

من ساحة “55” انطلقنا للبحث عن تجاوزات اخرى, وهذه المرة, توجهنا الى الشارع الذي يفصل بين “السدة” و” القيارة” وتحديدا عند مدخل القطاع “75” هناك كان الامر اكثر ضراوة, فالمتجاوزون بهذا الشارع, اتقنوا عملية السطو على الأرصفة والشوارع, من خلال الحداثة التي ظهرت على محلاتهم وبسطاتهم, فواحد منهم, سور مساحة واسعة من “الجزرة الوسطية”  بالحديد مع سقف من “الجوي” وعمد الى تثبيت لوحة اعلانية “تعريفية” كتب عليها “كوفي شوب الشباب”, اما الاخر فلم يختلف كثيرا لكنه اختلف عن الاول بنوع العمل فقط, فقد شيد على “الجزرة الوسطية” ذاتها, مطعما يقدم الوجبات السريعة. 

اثناء تجوالنا هناك, عمدنا الى شراء “سندويج” من مطعم الوجبات السريعة الذي شيد على “الجزرة الوسطية” هناك, اتضح لنا ان صاحب المطعم, يتبجح بين الفينة والفينة, وعلى مرأى من زبائنه, بتجاوزه على رصيف الشارع. الامر الذي دفعنا الى توجيه سؤال له.

قلنا له.. لم بنيت هذا المطعم هنا؟ الا تخشى السجن او الغرامة ؟

قال : (كلا.. ومن يعترض على ذلك, فأرجو ان يقصدني لكي ادله على عنوان مركز الشرطة)

قبل ان نختتم حديثنا وصاحب المطعم, دلف نحونا احد الزبائن وقال : (بنى هذا المطعم هنا, لكونه “عنده ظهر قوي” )

قلنا للزبون.. وما قصدك بـ “الظهر القوي” ؟

أقصد.. ان عددا من أقاربه, يشغلون وظائف مهمة في الدولة, لذلك فهو ينأى عن اي حساب او غرامة!!.

آراء متباينة.. ومحاسبتهم افضل الحلول،

من قطاع “75” توجهنا الى مقر بلدية  مدينة الصدر,  ونظرا لانتهاء وقت الدوام , لم نحظ بفرصة لقاء احد من موظفيها, فعمدنا الى استطلاع اراء عدد من المواطنين, وأول من التقيناه كان “ابو زهراء القرة لوسي” الذي اوضح ان هذه التجاوزات, هي واحدة من عديد الظواهر السلبية المستشرية في العراق, ولا يمكن البتة القضاء عليها  بالسلطة التنفيذية المتلكئة وحدها, وانما على السلطة القضائية ان تكون اكثر فاعلية وحزما, في تعاملها مع هذه الظواهر, وكذلك الامر ينطبق على السلطة التشريعية.  اما المواطنة “ام احمد” وتملك صالونا لحلاقة وتجميل النساء, شكت من كثرة التجاوزات, التي “والحديث لأم احمد” سببت لها خسارة صالونها السابق, بعد  ان وارته بسطات المتجاوزين عن الانظار. وبينت ان افضل الحلول للخلاص من التجاوزات, هي بمحاسبة المتجاوزين, بشكل يحتم عليهم الابتعاد عن محاولات تكرارها في المستقبل.

في السابق, كان المجتمع العراقي, يعزو أسباب استشراء الظواهر السلبية, الى الفقر المدقع المحيق بحياة المواطن, اما اليوم فالجميع اتفق على ان الفساد, له الباع الطولى في مساندة هذه الظواهر, ومن بينها التجاوزات على الارصفة والشوارع العامة, هذه الاراء التي اخذنا بتدوينها اثناء عودتنا الى نقطة انطلاقنا الاولى, ساندنا وبقوة من صدحت حناجرهم بهذه الكلمات, ففي طريق عودتنا, عمدنا الى اتخاذ “قناة الجيش”  سبيلا يوصلنا الى المكان الذي بدأنا منه تحقيقنا, وعلى جانبي طريق ” قناة الجيش”  ركن باعة الاسماك سياراتهم, ونصب البقالون خيامهم, وشرعوا ببيع بضائعهم, وعلى مرأى من دوريات الشرطة, التي تجوب القناة ليل نهار.!!!

قد يهمك أيضاً