حميد الحريزي
دراسة في طبيعة الشعر والشاعر/ الجزء الثاني
كذلك أحداث ثورة 1920 الوطنية التحررية ضد الاستعمار الانكليزي.
أما من أين أتت تسميت البو شبع فلا علم لي بها ولكن المعروف إن سكانها وكمظهر وخاصية أصيلة للمدينة الحديثة أن يكنى كل مجموعة أسرية وقرابية من السكان باسم جد العائلة أو بمهنته مثل البو سيد سلمان والبو جريو والبو غنيم والبو شربه والبو المعمار والبو الصايغ والبو كلل والبو ألبنا وال كاشف الغطاء … الخ , وكأنهم بذلك وتحت سطوة علاقات العمل والإنتاج في المدينة يريدون قطع صلتهم بالقبيلة والعشيرة الأم على الرغم من انتماء اغلب هذه العوائل لعشائر وقبائل عربية أصيلة ذلك متوازيا ومتحمسا مع ما تكنى به ورمز الحوزة الدينية في النجف باسم المدن أو المهن مثل الشيرازي والتبريري والطباطبائي واليزدي والبرجوردي والخراساني ….. وغيرها وهو ما سار عليه اغلب سكنة المنطقة الغربية بالخصوص مثل التكريتي وإلهيتي والراوي والعاني والسامرائي…الخ وهذا أمر يحتاج التوقف عنده لمعرفة أسباب تفضيل اسم المدينة على السم العائلة بالنسبة سكان المدن العراقية في الوسط والجنوب والغرب.
وقد أدت هذه الصفات وطوال تهديد المدينة امنيا وخشيتها من الخارج ما بعد السور ووجود أقلية أجنبية متعددة دائمة القلق على مركزها ونفوذها الديني والاجتماعي إلى تمركز أهل المدينة وبالخصوص من الوجهاء والأعيان والأثرياء اصلاء وغرباء إلى التمركز حول الذات ونفورها وخوفها الدائم ممن تسميهم بالغرباء حتى ولو كانوا من سكنة القرى والأرياف المجاورة على الرغم من كون قبائل وعشائر هذه المناطق غالبا ما يهبون لنجدة ومؤازرة أهالي مركز النجف على طول تاريخ صراعها مع الغزاة الأجانب والعرب الطامعين والطائفيين وهذا على عكس ما يجب أن يتصف به سكان المدينة باعتبارها مركزا دينيا وسياحيا وتجاريا هاما وضرورة انفتاحها على الجميع وكأن هذه الميزات قد سلبت من قبلهم من خارج المدينة ويخشون أن يستردها أصحابها (الغرباء) في يوم من الأيام ولم تأت هذه المكانة نتيجة لتطور طبيعي لعوامل جغرافية واقتصادية وثقافية تمتلكها المدينة دون غيرها، أو تمتلكها كما يمتلكها مثيلاتها من مدن العراق والعالم وللأسف الشديد لم تزل مثل هذه النظرة الخاطئة تهيمن على فكر وسلوك ليس فقط بعض العوام ولكن من وجوه وأصحاب الشأن والسلطة في المدينة ممن يزعمون أنهم من النجفيين الاصلاء هذا السلوك الذي يمكن أن نسميه بالشوفينية المدينية وهو سلوك متناقض بين موضوع يتطلب انفتاحا غير مشروط وواقعا منغلقا ممقوتا ولا شك إن لهذا الأمر وما افرزه في سيكولوجيا سكان المدينة يتطلب دراسة منفصلة ومعمقة من قبل اختصاصي علم النفس والاجتماع وهو ليس موضوعنا على كل حال .
بقية النجف طوال تاريخها لغاية ألان تشكل هاجسا مقلقا للسلطات الحاكمة في العراق فقبل قتل شهيدنا الشاعر مسموما في 1979 بثلاث سنوات أي في عام 1976 شهدت النجف انتفاضة كبيرة ضد سلطة نظام البعث زامنةالزيارة الأربعينية للإمام الحسين (ع) وقد أخمدت بقسوة مفرطة من قبل السلطة الفاشية حيث استخدمت فيها الدبابات والطائرات واعدم العديد من الثوار واعتقل المئات إن لم يكن الآلاف وهرب العشرات . وبذلك فان شاعرنا الكبير قد عاش وسط هذا الحراك الاجتماعي الشديد الفوران حينا وراكد شديد السكون حينا أخر. بين نزعة التحرر والانعتاق ونزعة المحافظة والخنوع والخضوع من جانب أخر . بين محيط خانق وفضاء لا منتهي بين عطش قاتل وارتواء طاغي بين ثراء فاحش وفقر مدقع وفي هذا الجانب نستشهد بما قاله العلامة الكبير د. نوري جعفر بخصوص الجوانب السيكولوجية للأديب وان يأخذ الباحث في نتاج الأدب أو المبدع وخصوصا الشاعر بعين الاعتبار عوامل ثلاثة كبرى متلاحمة ومتبادلة الأثر فلا بد من النظر
أولا : إلى طبيعة الفترة الزمنية التي سيبقى فيها الأديب موضوع البحث خصائصها التاريخية البارزة المتميزة ومن ناحية التناقضات الاجتماعية الكبرى الشائعة إثناء تلك الفترة للكشف عن مدى تغلغل الأديب في أعماقها ومدى انعكاس ذلك التغلغل في أدبه بشكل صريح أو ضمني
ثانيا : لا بد من إماطة اللثام عن نزعة الأديب الاجتماعية العامة وخصائصه السيكولوجية وروابطه الإيديولوجية وانتماءاته السياسية والاقتصادية ومدى نضجه الفكري وحرارة مشاعر ومهارته الأدبية وأصالته الفنية الجمالية وسعة الأحكام التي يطلقها على الأحداث والأشخاص والظواهر المحيطة به وسلامة تلك الأحكام وعمق الاستنباطات الاجتماعية التي يتوصل إليها كما يبدو ذلك كله في إنتاجه الأدبي .
ثالثا : لا بد من النظر إلى فنه اللغوي وبراعته في التعبير عن آرائه في ضوء الأسلوب الأمثل الشائع في مجتمعه مع ملاحظة دفة ألفاظه وغزارتها وأناقتها وانسجامها في العبارات والفقرات) د. نوري جعفر (الجوانب السيكولوجية في أدب الجاحظ) ص6 دار الرشيد 1981 .وفي ما أسلفنا استطعنا أن نوفي بشكل مختصر الناحية الأولى من هذه الاشتراطات النورية (نسبة للمفكر العراقي المعروف نوري جعفر) . أما من ناحية الاشتراط الثاني فان شاعرنا كان وفيا لقيم ومبادئ أو عرف أجداده وأعمامه من البو شبع وعموم أبناء طبقته العاملة المحرومة في مساندتها لابي الأحرار والثوار ضد الترك والانكليز في جبهة المشروطة والتي تعبر كما أسلفنا عن تطلعات الطبقة البرجوازية الوطنية الناشئة والتي تمتاز بالضرورة بالنزعة الثورية والديمقراطية في كفاحها ضد جبهة المستبدة . وبذلك كان موضوعيا أن تساند طبقة العمال إن صح هذا الوصف على فئات المعدمين والحرفيين في تلك الفترة لكفاح البرجوازية الناهضة تحت مظلة المطالبة بالعدل والحرية والديمقراطية ضد الاستغلال والاستبداد للملكية المطلقة وأعوانها وركائزها الاجتماعية للطبقات المحافظة. ومن بعد ذلك انحياز الشاعر للفكر الاشتراكي الثوري الذي امتازت به النجف وخصوصا بعد ولادة الدولة العراقية الحديثة واحتضانها بواكيره الأولى وخصوصا بعد ثورة أكتوبر العظمى في 1917 وقد كان العديد من قادة الحركة الشيوعية واليسارية والقومية والدينية التحررية من مدينة النجف كنتيجة موضوعية لواقعها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والجغرافي سالف الذكر . وقد أعطى البو شبع العديد من النماذج والرمز الثورية نساء ورجالا من المناضلين ضد القهر والاستغلال والدكتاتورية ومنهم مثلا القائد النقابي المعروف المرحوم شهيد إبراهيم أبو شبع أخ الشهيد الشاعر
توجهاته السياسية
كان الشاعر ذا هوى يساريا وظل وفيا لفكره ومنسجما مع منهجه الاشتراكي وتبنيه لقضايا الجماهير الكادحة وكما قال الشاعر السوفيتي الكبير رسول حمزاتوف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق(إن قصائدي لم تكن عضوا في الحزب الشيوعي) وكذلك فان قصائد أبوعلي لم تكن عضوا في الحزب الشيوعي العراقي ومن ضمن ذلك توظيفه القصيدة الحسينية وهي تحيي بصدق ثورة حقيقية ضد الظلم والقهر وتحمل من المعاني الإنسانية ما يبقيها حية طوال مئات السنين فلم يكن أبو علي بكاء بل كان يقدح بها شرر الوعي الشعبي ويحرضه على المطالبة بحقوقه العادلة . وقد قرأ العديد من الرواد يد قصائد أبو شبع ومنهم سيد كاظم القابجي وعبد الخالق الاعرجي وحسون شيحان وسيد طالب الأشبال وفاضل الراد ود ابن أخ الشهيد الثائر نجم البقال حيث كان صوتا هادرا ويروي بعض مجا يليهم ومتابعي مجالسه الحسينية إن أبا عصري غالبا ما يضيف من عنديته أبياتا يؤجج بها حرارة قصائد أبي علي وخصوصا وهو معتليا المنبر الحسيني وسط جموع الناس في مختلف المناسبات الحسينية وقد تعرض الاثنان للكثير من المضايقة والملاحقة والاعتقال من قبل السلطات والقوى المحافظة في الأوساط الدينية والعشائرية والإقطاعية وأضرابهم من أصحاب الثروة والجاه في النجف وخارجها كما قال رسول حمزاتوف:-
(كلنا سنموت لن يعيش إلى الأبد
ذلك معروف وهو ليس بالجديد
لكننا نحيا ليبقى بعدنا اثر:
بيت اوشجرة اوكلمة اوممر)
وكما قال يمكن للمرء أن يبدل قبعته ولكن لا يمكن لشخص أن يبدل رأسه)
فمات الشاعر بشكل مفاجئ بعد ساعات من عودته من استدعاء إلى محافظة النجف ويؤكد الكثير من الأطراف انه مات مسموما بواسطة شراب قدم له في المحافظة في زمن الدكتاتور عام 1980 . وقد قتل الراد ود في حادث غريب على اثر شجار مفتعل تدور حوله الشبهات وبذلك سكت الصوت القائل والصوت الناقل ليتنفس أنصار التخلف والاستبداد والدكتاتورية الصعداء. ومن هذه القصائد الحسينية وهي كثيرة وتتناقلها الألسن وتحتفظ بها ذاكرة الأجيال لحين الوقت .
يسمعونه يعرفونه نعمل بنهجك يا علي ما نسونه يعرفونه
نهج يتكفل حقوق البشر بيه الأمم تشهد
تنحفظ بيه الحكوك ولا فرق ابيض واسود
العمل للمجموع يصبح عمل فكري لو عمل يد
لا احتكار وسيطرة اعمال حرة ومثمرة
هذا النهج يا حيدرةنهجك للعمل والجد
واليحرر هو يثمرهذا النهج اهل الوعي يحررونه يعرفونه
• قوة وتفرد الشخصية
كان الشاعر الشهيد يتميز بقوة وتفرد الشخصية والعزة بالنفس والعنفوان والإباء حيث يشهد بذلك كل من يعرفه كما تشهد له بذلك سيرته العملية المعروفة وقصائده المنشورة وغير المنشورة ومن الشواهد الشعرية يؤكد ويظهر ذلك بشكل واضح في هذا البيت من الابوذيه ونلفت النظر هنا إننا عندما نذكر شاهدا شعريا لا يعني أن ما نختاره هو كل ما يخص هذه الصفة أو تلك أو هذا الحدث والموقف أو ذاك ولكن ضيق المقال وأحيانا عدم الوصول إلى المصدر ليثرينا بالمزيد من شعر أبي شبع الذي يملأ الكثير من الصدور . يقول أبو علي
بعدما انطر بليالي ولصفار
اعرف لص وكع بشراكي ولصفار
واحد من اعد روحي وله صفار
شما تكثر تزيد المعنوية
وهنا يعد الشاعر نفسه بحق رقما متميزا والبقية أصفارا لا تزيده إلا علوا وعظمة وكبرا واباءا وشاعرنا يؤشر للكثير من الأمراض الاجتماعية التي تتميز بها وتزرعها في حاضنة المجتمع الفوارق الطبقية الصارخة نتيجة للقهر والاستغلال وأنظمة وسلطات القهر والاضطهاد وقوى التخلف والظلام ولكن هذه هي حساسية الشاعر حامل القيم الإنسانية الحقيقية الصادقة كالمحبة والوفاء والشهامة والكرم والشجاعة والى ما غيرها . ومن بعض ماسجله الشاعر ، قصر ونفعيه بعض العلاقات بين بعض من يعتبرهم إخوة واصد قاء وأحبابا حيث يقول :
عافتني الأحباب بدرب مخطور وجان الأمل تدفع عني الأخطار
اثاري هذا المثل مشهور اخوه وكت كَعدت ليل ونهار
وهو يبرر ما حصل له بسبب طيب سجيته ونكران ذاته المجبول عليها في حياته وتعامله مع الآخرين الذين كشفت زيفهم التجربة أثناء العشرة والرفقة والتعامل
تدري جم صديق العاشر يته
كشفته أعله الطمع واتجنبيته








