علوان السلمان
(مرات عديدة تصاب بخيبة..حينما تطلب من أم سمير ان تزورها لتناول الشاي معها..فتعتذر منها بصوت خافت:
ـ أخاف(خيه)
تضحك(مم تخافين)؟
ـ قد يسقط السقف على رأسي..
فتطمئنها بسرعة موشكة على البكاء
هل من المعقول ان يسقط السقف الذي عاشت تحته عائلة(نوري عبدالعزيز)؟..يا ام سمير..ايتها المعتوهة صدقيني ما زالت روائحهم تنبعث من كل مكان في البيت(أجل المكان الذي مات فيه ابي وامي، والمكان الذي وضع فيه تابوت رزاق الذي حاول ان يسد الكثير من الفراغ الذي خلفه سفر برهان لولا الحرب التي اخذته منذ ايامها الاولى..ص10 ـ ص11..
والعنوان المستل من لوحة:(ها نحن الآن امام اللوحة(لماذا تكرهين ريمارك؟)..ذلك الاسم المستفهم الذي تشكل في الايام الاولى لتواصلنا معا في المرسم حينما حدثتني يوما عن (ريمارك) بكراهية تتساقط ككرات من ضوء حولها وهي تواصل حديثها عن كراهيتها للحرب..فانبثق اسم اللوحة التي تحيلني الى صور وكوابيس الايام التي كنت محاصرا بها..الاساليب البوليسية اليومية التي تواصلت حتى بعد ان تركت العمل في المخازن..أكرم وضع اللوحة في اطار عملاق اضاف اليها جمالا مهذبا تساهم بتعاظمه كمية الضوء الساقطة عليه من اعلى وامام اللوحة بزوايا حسبها اكرم كفنان ديكور محترف فبدت هالة بمظهر يشبه الهة وصلت توا من الفردوس..توقفنا كثيرا امام اللوحة التي وافق اكرم ان اهديها الى هالة معترضا بسخرية شعرت بمرارتها: احس ان جسدي يفقد شيئا عزيزا للمرة الثانية..)
فالسارد يهيمن على سرد الاحداث وحركة الشخوص محققا رؤيته الخارجية وتقديم مادته السردية على التداعي فيلجأ الى استخدام الحوار بشقيه(الذاتي) و(الموضوعي) وتقانتي الاسترجاع والاستباق لتحقيق رغبته في رصد مشاعر الشخوص وانطباعاتهم..لذا فهو الراوي المشارك والفاعل والمتفاعل في الاحداث وكل ما حوله الا ان حضوره يطغى على كل الوقائع بتوظيف ضمير المتكلم الذي جاء مرادفا للذات الفاعلة..فضلا عن سيطرة هاجس المكان ليشكل الكيان والهوية بالنسبة للسارد الذي صار يستمد من تأثيراته القادرة على تعبئة حركة الواقع وشحنها بفيض من الدلالات والرموز..اضافة الى تداخل الاصوات على الرغم من سيطرة الراوي الذي يلجأ الى الزمن الماضي(استرجاعا)او الى طريقة الاعترافات الذاتية(حوار الذات)..مع لجوئه الى خلخلة وحدة الحدث في بنائه السردي حتى يبدو وكأنه لوحات تصويرية تعددت حبكاتها وشخوصها واختلفت وتباينت موضوعاتها مع ان محورها منحصر في ثنائية التخييل والواقع والرابط الزمني(الحرب)والحكائي(مدينة الثورة)..فتعددت الاصوات الدالة على تعدد الخطابات والانتقالات المكانية تبعا لطبيعة الحدث..لذا اعتمدت الرواية شخوصا متباينة الابعاد والمكونات الاجتماعية والنفسية..فهناك(ثرياـ باجي ثريا) التي تعيش حياة انفرادية بعد نكبتها بزوجها الذي اختفى تحت ظروف غامضة..وموت ابيها وامها واستشهاد اخيها (رزاق) ورحيل اختها(نورية)التي تركت في ذاكرتها كلماتها الاخيرة(ثريا..اخاف عليك وانت وحيدة) ص10..اضافة الى هجرة اخيها برهان القسرية..وهناك(هالة)التي تزوجت من ضابط بالحاح من امها وشقيقيها والذي يحال على التقاعد بعد اصابته في احدى المعارك..فظلت تداري عوقه الى ان حدثت القطيعة بينهما بالطلاق بسبب اختيارها في المكتب السري لمديرها العام وعدم احتمال زوجها انشغالاتها وتوصيلها يوميا بسيارة الرفيق جبار الاسود الى البيت من الوزارة..ص20..ومن ثم تعلق برهان بها مع ما بث حولها من شبهات…فعلاقته مع خالدية الشخصية الثانوية المنفصلة عن زوجها السكير الذي يسيء معاملتها باستمرار(هربت من زوجها السكير (حميد) الذي لم تطق العيش معه..اذ كان شرسا يقذفها بأي شيء امامه لأتفه الاسباب..حتى انه مرة(امسك بحزام جلدي وبدأ يضربني به بعنف وقوة..فصرخت بصوت عال تدخل على اثره الجيران..لم استطع جمع ملابسي فهربت شبه عارية..متورمة الوجه وجسدي يئن من الالم الى بيت أمي..) ص81..فسميرة اليعقوبي الفلسطينية الانتماء والتي يغتال الموساد زوجها فتتنقل في معسكرات المقاومة الفلسطينية حاملة كاميرتها لتوثيق العالم وما كان يجري في الضفة وغزة قبل انتقالها الى بيروت ومع وصولها بيروت تتوطد علاقتها ببرهان..
(اي مكان تختارينه انت..؟)..لكنها لم تجب بل ضحكت بميوعة وقد تصاعدت انفاسها..واصل اقتراحه(نمضي نهاية الاسبوع القادم خارج بيروت..نضع ركابنا اينما حللنا..)..تواصلت ضحكتها..أطبق فمه على فمها فاستسلمت برقة..اصدر السرير ضجة أجفلت حمامتين فطارتا..ليس بعيدا لتحطا ثانية على الشرفة..) ص51..اما خولة فقد كانت منشغلة في اعداد مراسيم زواجها..ومن الشخصيات الرئيسية اكرم عبدالرحمن الصديق الحميم لبرهان(الراوي العليم).. السينارست الذي تبتر ساقه اثر حادث انفجار فيتفرغ لكتابة سيناريو فلم(القطاف المر) بعض فصوله ثيمتها من بعض فصول رواية ريمارك(للحب وقت..للموت وقت) وبعض من قصة (تراتيل العكاز الاخير) لمحمد علوان جبر..مع استحضار شخصيتي (ناصر جواد) صاحب مزرعة في سلمان باك و (بول جوزيف) الطيار الامريكي الذي ارادت الحكومة التخلص منه ودفنه والاسرار التي يحملها نتيجة خدمته فتوفر لذلك طائرة موقوتة تقله الى العراق لكنه يهبط بوساطة مظلته قبل انفجارها فتتعلق خيوط مظلته على اغصان شجرة في مزرعة(ناصر) الذي يعمل على انقاذه..كل هذا فرش روحه على امتدادات ثمانية عشر مشهدا رقميا استدعى المستهلك(المتلقي) للمشاركة في اختيار عنواناتها..وقد استهلت بصوت الراوي العليم الذي يعلن حضور (ثريا) ابنة مدينة الثورة(قطاع 18) نشأة وتأثرا بتقاليدها..ثريا شقيقة برهان نوري البؤرة المركزية للسرد..والتي تعيش وحيدة بعد ان غادرها كل المقربين منها فتظل متشبثة بوجودها التاريخي المتمثل ببيتهم..متنفسة خيالاتهم ورائحتهم..
فالسارد في فصوله يعتمد الانتقالات المشهدية في مبناه السردي والتيمات الانسانية متناغما وما قدمه(ريمارك) الروائي الذي دون احداث الحرب في المانيا بتجسيد استثنائي..وصفي لاهوال الحرب ومشاهدها المروعة التي ينمو وسطها الحب محتجا على ممارسيها ومسببيها..
(اجابها بألم واضح: سيدتي يبدو انه غير مقدر لهذا السيناريو ان يترجم كفلم سينمائي..لذا اقترح عليك ان تصرفي النظر عنه وليذهب الامريكان في حالهم والملثمون في طرقاتهم المظلمة فيما ينزوي بعيدا عن المشهد الرئيس للرؤيا(ناصر جواد) و(بول جوزيف) وان تذهب الغرف الحصينة الى الجحيم..صمتت سميرة اليعقوبي وفي عقلها كانت تضج الكثير من الافكار والصور..افكار عن نهاية مفترضة..تفاصيل عريضة وواسعة تركت عرضة لافكار مجنونة حملها رجال ملثمون لا يجيدون الا السخط والجبروت وعن قوة عسكرية عملاقة تمارس وهي تسير في شوارع المدن التي تدخلها ثقافة الخراب المتسرب من العقارب الرمادية ذات السرف الحديدية التي يتصاعد دخانها في مدن آمنة سرعان ما تتحول الى مارد وهي تقع في مرمى الملثمين من جهة والكائنات الفضائية التي تركل تلك العقارب الرمادية العملاقة..وقبل ان تنهي مكالمتها مع اكرم كانت تعلم جيدا انه يشاركها حماستها ذاتها في انهاء هذا السيناريو المرعب وانه سيعاد الاتصال بها قريبا.) ص180..
فالسارد يعتمد تقنية الوصف الذي يشكل احد الاجراءات المهيمنة من خلال وصف الشخوص والفضاءات والمواقف..مع اعتماد التفاصيل الجزئية المقترنة بالشخصية او المكان الذي يعمل على تنظيم الاحداث والحفاظ على انسجامها..اضافة الى تأثيره في عمق الشخصية وكشفه عن الابعاد النفسية والاجتماعية عبر معمار ينطوي على نقلات مشهدية ودلالات ايحائية ابتداء من العنوان الذي يتكىء على زمن انساني ساكن حسب تعبير هانز ميرهوف..فيضفي تصور سيميائي الى طبيعة السارد الذي عانى من صراع نفسي على صعيد الزمن(الشبح الوهمي الذي يشكل الوجود..).والذي يتوقف تشكيله على مقدار ادراك العلاقة القائمة بين الشخوص والامكنة والاحداث.. وهذا يتطلب دورا مزدوجا في ثنائية الحضور والغياب..دور يقوم به الروائي ودور يقوم به النص من خلال مجريات الاحداث..وهو يتحرك في امكنة مجردة تفعل فعلها في الشخصية التي ما تفتأ تحتدم بالتمرد والهروب الى اماكن تحصل فيها على حريتها التي هي (وعي الضرورة)..
وبذلك قدم السارد نصا بحبكتين متداخلتين لكل منهما صوته السردي وعوالمه الدرامية النامية.. :اولهما تبدأ بثريا واخيها برهان وعشيقاته من جهة واكرم وهالة من جهة اخرى…اما الثانية فتنحصر في سيناريو(القطاف المر) كبنية نصية مضافة اسهمت في التصاعد النصي الذي ينتهي بانفتاح اجوائه السردية.. المبنية على عالمين مكانيين:اولهما الذاكرة وثانيهما الواقع بموجوداته..فضلا عن اتسامه بالوعي الفكري من خلال موقف واع لمعطيات الزمن السابحة داخل اطر دلالية تنحصر في(الذاتي والتاريخي والكوني الانساني)..