وجوه

عدنان الباجه جي.. أيقونة الدبلوماسية العراقيّة رجلُ دولة ودبلوماسيٌ من طراز رفيع يترك بصماته في أماكن عديدة

زيد بن رفاعة  

 

السني المتمدن

الباجه جي يحمل ميولا قومية عربية راسخة، حتى أنه يعتبر انضمامه إلى الفريق الذي كان يعمل في أبوظبي، ووجوده في مباحثات وقيام دولة الإمارات جزءا مِن تلك العاطفة.

عندما عُيّن الأب بمنصب دبلوماسي، العام 1936، ممثلا للعراق في عصبة الأمم المتحدة آنذاك، وسفيرا غير مقيم بإيطاليا، ظل قلقا على ولده، من أن يتركه مع دلال الأم والعمات والخالات، فأشار عليه بعض الأصدقاء، وهم من وزراء ورؤساء وزراء، أن يسجله في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، فكان ذلك. ومن يومها تبحر الباجه جي باللغة الإنكليزية، يتكلمها بطلاقة تامة، مع احتفاظه بالعربية لغته الأُم.

كان ترشيح الوالد أن يكون دبلوماسيا بطهران، لكن علاقته بالشيخ خزعل الكعبي جعلت الإيرانيين يرفضون تعيينه، فقد كان مزاحم الباجه جي على علاقة متينة بالشيخ خزعل، يوم لم تكن الطائفية شيئا مذكورا، فالكعبي كان شيعيا والباجه جي الأب سُنيا، عمل معه وصار الأقرب إليه من بين المحيطين بمجلسه حين كان حاكما بالمحمرة.

ظل الوالد وفيا للكعبي، فحاول زيارته في معتقله بطهران، أو مقر إقامته الإجبارية، ليطمئن على أحواله، قبل أن يُقتل مِن قِبل الشاه رضا بهلوي، وأشاعوا حينها أنه توفي، بعد أن غدر الشاه به عبر وليمة أقامها، وأُخذ معتقلا، وضمّت الأهواز إلى إيران.

عيّن الأب وزيرا للخارجية ورئيسا للوزراء، وكان من الأسرة أيضا حمدي الباجه جي رئيسا للوزراء أيضا، وفي هذه البيئة الأرستقراطية نشأ عدنان، لكنه ظل ذلك الإنسان الدمث والبسيط، على الرغم من قامته العالية في الوظيفة والتأثير داخل العراق وخارجه، فهو شخصية معروفة عالميا، لكونه أصبح وزيرا للخارجية أكثر مِن مرة، بعد ثورة 14 تموز، ثم ممثلا للعراق في الأمم المتحدة حتى العام 1969، حيث قدم استقالته، وظل خارج العراق ولم يعد إلّا بعد العام 2003. بعد رئاسته للوزراء في الأربعينيات، كانت لوالده مشاكل مع رجالات ذلك الزمان، فعندما سقط النظام الملكي، وشُكلت محكمة الثورة بعد 14 تموز، استدعي كشاهد ضد رجال ذلك العهد، وتقدم بالشهادة، ما استفز الكثير من أصدقائه ومعارفه، هذا ما قرأناه في “ذاكرة الورق” للقاضي المعروف محمود خالص. لهذا لم يتشكل موقف ضد الباجه جي الأب ولا الأسرة، لكن عندما نقول إن الابن أصبح وزيرا للخارجية فهذا لا يعني أنه لم يكن أهلا لهذا المنصب، بل قد يُحسب مِن بين أفضل وزراء خارجية العراق.

مال الباجه جي للفكر القومي، وكان يعتقد أن عبدالناصر أهلا لتمثيل العرب، وتحقيق الوحدة العربية المرتجاة، لكنه بقي يشير إلى سوء مَن حوله من الرجال. وظل يحمل تلك الميول القومية، حتى أنه يعتبر انضمامه إلى الفريق الذي كان يعمل في أبوظبي، ووجوده في مباحثات وقيام دولة الإمارات هو جزء مِن تلك العاطفة، إضافة إلى التقدير العالي الذي كان يكنه للشيخ زايد آل نهيان، والذي اقترح أن ينضم إلى مجلس الوزراء في إمارة أبوظبي.

آفاق أبوظبي

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي يرثي الباجه جي في حسابه الخاص على تويتر بالقول “فقدنا اليوم رجلا عزيزا وصديقا وفيا، عمل مع الشيخ زايد بإخلاص منذ بدايات الاتحاد، وأسهم بخبرته وعطائه ومواقفه النبيلة في إيصال صوت الإمارات إلى العالم”

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي يرثي الباجه جي في حسابه الخاص على تويتر بالقول “فقدنا اليوم رجلا عزيزا وصديقا وفيا، عمل مع الشيخ زايد بإخلاص منذ بدايات الاتحاد، وأسهم بخبرته وعطائه ومواقفه النبيلة في إيصال صوت الإمارات إلى العالم”

وصل الباجه جي إلى أبوظبي العام 1969، وكان بعد أن أصر على استقالته من تمثيل العراق في الأمم المتحدة، قد عُرضت عليه عدة وظائف في الأمم المتحدة وغيرها، ووافق أن يعمل في مؤسسة اقتصادية بجنيف، مستشارا في شأن دول الشرق المتوسط، وضمن عمله وصل إلى أبوظبي، وزار دبي ملتقيا بالشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وكان مكتبه ضمن ميناء دبي الصغير آنذاك، وكانت قضية الخلاف على منطقة البريمي قائمة، وكذلك الخلاف مع سلطنة عمان على الحدود، إلا أن الباجه جي كان من المؤيدين لثوار ظفار بعمان، عندما كان وزيرا للخارجية بالعراق، وربما كان هذا بتأثر الشعور القومي الناصري.

عاش وعمل في إمارة أبوظبي، وهو يذكر مشاركته بتشكيل الاتحاد، والذي كان من المفترض أن يكون بين الإمارات التسع، إضافة إلى قطر والبحرين،. ويروي كيف ظل إلى جانب الشيخ زايد، الذي دعم القضية العراقية لاحقا عبر الباجه جي، في محاولته لتجنيب العراق الحرب، لكن حسب الباجه جه في مذكراته “في عين الإعصار” أن الجامعة العربية لم تُقدم تلك المبادرة على طاولة مؤتمر القِمة العربية، الذي عُقد قُبيل غزو العراق، وكان أمين الجامعة حينها عمرو موسى.

الباجه جي والنهضة الصعبة

غير أنه وبعد أن باتت كفة الحرب لإسقاط النظام  السابق هي الراجحة، أخذ يتحرك ضمن الأوساط التي كان الباجه جه على علاقة معها، فقد كانت تربطه صداقة مع أمير الكويت الحالي، الشيخ صباح الأحمد، عندما كان وزيرا للخارجية، وأوساط أوروبية وأميركية، وفي هذه الأجواء شكل حزب أو تيار “الوسط”، نحو العام 2000، وعقد مؤتمرا بلندن، وألقى محاضرة عن برنامج الوسط، ومن بينها أن يعتزل الرئيس البائد، ومع إصدار عفو عام، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، ويتم إطلاق السجناء ويسمح بعودة المهجرين إلى غير ذلك، لكنه، وغيره، اعتبروا أنفسهم إنما يتمنون، فالرئيس لم يخطُ خطوة نحو تسليم السلطة، وكذلك الأوساط العربية والعالمية لم تعر أي اهتمام لتلك التصورات.

بعد الغزو الأميركي للعراق وإعلان سقوط النظام، عاد الباجه جي إلى بغداد، بعد فراق خمسة وثلاثين عاما، ولم يرها كما تركها في نهاية الستينيات، وهناك عادت به الذاكرة إلى تراث والده، وأنشأ صحيفة باسم “النهضة”، وهي الصحيفة التي كان يصدرها والده في العهد الملكي.

حاول الباجه جي الاستفادة من الكوادر السياسية والثقافية والصحافية، بعيدا عن الطائفية، فعمل معه مهدي الحافظ، وهو قيادي شيوعي سابق، وأصبح صاحب الامتياز للجريدة، وعند تشكيل الوزارة رشحه أن يكون وزيرا للتخطيط، غير أن “النهضة”، التي أصبحت مجالا للفكر العلماني والمدني، سرعان ما أغلقت وبمؤامرة من الذين عملوا معه، والمسؤول المباشر عنها الحافظ ذاته، بينما كان الباجه جي يغطي كل نفقاتها، وبهذا الخصوص نعثر على شهادة لرئيسة تحريرها الصحافية سلوى زكو.

كتبت تقول على صفحتها في الفيسبوك “شهادة للتاريخ: رحل الدكتور عدنان الباحه جي حاملا معه أسرار مرحلة مفصلية من تطور الأحداث بعد 2003 بالعراق تغيرت بعدها أمور كثيرة واتخذت مسارها المعروف بعد ذلك. كيف أغلقت جريدة النهضة فجأة؟ صدرت جريدة النهضة لتعبر عن تجمع الديمقراطيين المستقلين، وهو كيان سياسي تأسس برئاسة الباجه جي وضمّ طيفا متنوعا من السياسيين (التكنوقراط). كان الدكتور مهدي الحافظ صاحب الامتياز وأسسها ورأس تحريرها الدكتور جلال الماشطة. تسلمت منه رئاسة التحرير بعد انتقاله إلى شبكة الإعلام العراقي. كان شرطي الوحيد ألّا يتدخل أحد في عملي اليومي وفعلا لم يتدخل الراحل الدكتور عدنان ولا حتى الحافظ الذي أبلغت بأنه المشرف على الجريدة”. وتتابع زكو “كنت أطالبه أحيانا بإبداء ملاحظاته فيقول لي ما عندي وقت حتى لأقرأ الجريدة. كان يومذاك وزيرا للتخطيط يحاول أن يعيد ترتيب أولويات العمل في الوزارة. في إحدى الأمسيات وكنا على وشك إغلاق الصفحة الأولى ومعي محرر الصفحة الأولى نصير النهر ومصمم الجريدة فلاح الخطاط وفي القسم الفني أحد الزملاء الخفر ينتظر اكتمال العمل في الصفحة الأولى. دخل الحافظ علينا فجأة ومعه الماشطة وبيد الأول بيان طلب مني نشره في الصفحة الأولى. ألقيت نظرة سريعة على البيان ولم أدقق كثيرا في تفاصيله لكني لاحظت انه يحمل تواقيع بعض أعضاء التجمع، ولا يوجد اسم الباجه جي بينهم. سألته هل يعرف الدكتور عدنان بهذا الكلام؟ رد علي بأن الدكتور لا علاقة له

بالموضوع وأنا المشرف على الجريدة، أقول لك انشريه ونشر فعلا في الصفحة الأولى. اتضح في ما بعد أنه كان انقلابا من الداخل على رئيس التجمع. من جهة لم تكن لي أي علاقة بالتجمع، ولا علم لي بما كان يدور هناك من صراعات، ومن جهة أخرى لم تكن لي خبرة سابقة بانقلاب السياسيين على بعضهم البعض. نشر البيان واطلع عليه الدكتور الباجه جي وكان في الإمارات. اتصل بي غاضبا أشدّ الغضب وطلب إغلاق الجريدة على الفور وصرف كل العاملين. وللأمانة فقد أعطى العاملين في الجريدة كل حقوقهم وفقا لقانون العمل الذي يحكم أوضاع الصحافيين في أمثال هذه الحالات”.

تجربة الحكم في العراق

اصطدام الباجه جي بالطائفيين والدينيين في العراق كان أمرا محتوما. كما حين ألغى عبدالعزيز الحكيم، رئيس مجلس الحكم الأسبق، قانون الأحوال الشخصية، فأعاده الباجه جي فور توليه الرئاسة 

بعد أن انتهت أول تجربة لصحيفة كان بإمكانها مواجهة المد الديني والطائفي، إلى جانب تجربة صحيفة “المدى” البغدادية، والمستمرة في الصدور، وصاحبها الصحافي فخري كريم. ولكن الباجه جي كانت لديه تجربته في العملية السياسية الجديدة في العراق أيضاً. وفي تلك التجربة كان عليه أن يخوض في مستنقعات بعيدة كل البعد عن طبيعته.

عندما نقابل بين شخصية مغمورة مثل غازي عجيل الياور وشخصية مشهورة دوليا مثل الباجه جي، سنقف على أوائل الانهيار في اختيار المناصب، فما حدث مع الباجه جي وهو عضو مجلس الحكم بين عامي 2003-2004 مع طائفيين وعنصريين يفسر لماذا كان لا بد أن يُحقد عليه، لذا كان الخيار الياور رئيسا للجمهورية، وهو الذي رشحه أن يكون عضوا في مجلس الحكم.

عندما دخل الباجه جي مجلس الحكم، بعد مجيء بول بريمر كحاكم مدني على العراق، وعقِب إزاحة غارنر، كان يعتقد أن هناك مجالا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنه اصطدم بالطائفيين والدينيين، حتى أنه عندما ألغى عبدالعزيز الحكيم، رئيس مجلس الحكم لشهر واحد، قانون الأحوال الشخصية، وكأنه جاء لهذه المهمة، أعاده الباجه جي عندما تولى رئاسة المجلس، لشهر أيضا. ويومها انسحبت القوى المتدينة من الاجتماع هروبا من التصويت، إلا أن موقف مسعود البارزاني كان لصالح إعادة العمل بالقانون، وهو القانون الذي صدر العام 1959.

شارك الباجه جي في الانتخابات، وصار عضوا في الجمعية الوطنية، ثم عضوا في البرلمان العام 2005، مع القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي، وكان أكبر الأعضاء سنا، وعندما ألقى كلمته لافتتاح الجلسة الأولى احتج الحكيم رئيس الإتلاف الوطني الشيعي، وقال كلاما لا يليق أن يُقال بحقّ شخصية مثل الباجه جي. غير أن الأحوال أخذت تسير نحو الانهيار، بسبب شدة القتال، والتي اتهم الباجه جي بتأجيجها الجيش الأميركي ذاته، لشدة العنف الذي كان يمارسه.

تيار “الوسط”، الذي يعود تأسيسه للباجه جي نحو العام 2000، عقد مؤتمره بلندن، وألقى فيه محاضرة عن برنامج يتضمن خطوات عديدة، من بينها أن يعتزل الرئيس العراقي، وإصدار عفو عام، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، ويتم إطلاق السجناء ويسمح بعودة المهجرين

صار الباجه جي ينظر إلى نفسه على أنه لا موقع له في هذه الزحمة الطائفية، ولا مكان لآرائه، فمثله لا يقدر على البقاء في هذا الوسط، مع أن تمثيله للعراق كرئيس للجمهورية، كان الخيار الأفضل إذا ما كان هناك مشروع وطني.

بعدها ترك الباجه جي العراق، ولم يعد له صوت مسموع ، عاد إلى أبوظبي، وعاش خلال مرضه الأخير بعناية فائقة، حتى وفاته. فرثاه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي في حسابه الخاص على تويتر قائلا “فقدنا اليوم رجلا عزيزا وصديقا وفيا، عمل مع الشيخ زايد بإخلاص

منذ بدايات الاتحاد، وأسهم بخبرته وعطائه ومواقفه النبيلة في إيصال صوت الإمارات إلى العالم. 

قد يهمك أيضاً