محمد عبد الهادي
تمثل يسرا، التي اكتفت بعبارة “الحمد لله” في تعليقها على إصابتها، أيقونة للأناقة والشباب والجاذبية والجمال في الوسط الفني، رغم تجاوز عمرها الخامسة والستين، ما أهلها حتى قبل سنوات لتكون على قائمة ترشيح في أعمال أقل بكثير من عمرها الحقيقي، لتأتي صديقة لبطلات في نصف عمرها، ومنافسة لهن لجذب أنظار الرجال.
لا تعبأ بالزمن
تؤمن الفنانة المولودة العام 1955، في حياتها الفنية بأن الاستمرارية أعظم صفة إنسانية يمكن اكتسابها، فلا تعبأ بمرور الزمن، وتداعيات التقادم في العمر على الأجساد والوجوه، فترتدي الملابس الشبابية المكشوفة وتعقد جلسات تصوير على الشواطئ، وتقارع النجمات الشابات على السجادة الحمراء في المهرجانات المحلية والعربية، وتسرق منهن عدسات المصورين.
تحب يسرا الحياة كثيرًا فتتعامل معها بمنطق المراهقة التي تريد استكشاف كل شيء، فلم ترفض خوض تجربة عالم الأغاني المصورة وهي على أعتاب الخمسين لتكمل قطعة الحجر الناقصة في بنيانها الفني، بعدما قدمت أعمالا للسينما والدراما والمسرح.
لا تزال تتعامل بمنطق الفنان الهاوي، فرغم نجوميتها تحرص على مراجعة دورها قبل بدء تصوير أي مشهد لها، لتكون قدوة للممثلين الشباب، ولا تضجر من توجيهات أجيال جديدة من المخرجين لا تملك نصف خبرتها الفنية.
كأن التمثيل يجري في عروقها قبل قدومها إلى الدنيا، فالمثير للاستغراب أنها جاءت إلى الدنيا في سيارة تاكسي بعدما شعرت والدتها بآلام المخاض في أثناء عودتها من مشاهدة فيلم “لحن الوفاء”، أول التجارب السينمائية للمطرب الراحل عبدالحليم حافظ.
عاشت يسرا حياة غير مستقرة بانفصال والديها، وانتقال حضانتها بعد بلوغها الثالثة عشرة إلى والدها الذي كان شديد القسوة وتختمر في ذهنه الشكوك باستمرار، ويتخذ من العنف البدني وسيلة أساسية للعقاب، ولم يتراجع عن تقييد حريتها حتى وصل به الحال، إلى إعاقة مسارها التعليمي لسنوات كي لا تغادر المنزل.
لا تزال تلك الفترة محفورة في ذهن الفنانة المصرية التي لا تنكر محاولتها الانتحار أثناء المراهقة بعد رسوبها في المرحلة الإعدادية، وخضوعها للعلاج النفسي حتى استقامت نفسيتها، قبل أن تجد في عالم التمثيل الملجأ الذي غيّر نظرتها للدنيا وحولها من الكبت والضغط إلى الحرية والإبداع، ووجدت في تقمص شخصياتها تعويضًا عن الضيم وفقدان الحب الأبوي.
الفنانة المشرقة
انعكست تفاصيل الحياة الشخصية ليسرا كثيرًا على اختياراتها الفنية، فأصبحت رمزاً للقضايا النسوية، لتحمل لقب “فنانة مشرقة” بامتياز بعدما أسهمت أعمالها في إثراء الوجدان العام، ودافعت بقوة عن قضايا المرأة وحقها في الحياة بكرامة، وكان مسلسلها “قضية رأي عام” قد حظي بتأييد كبير من قبل المنظمات الحقوقية النسوية لخصوبة قصته عن تعرض ثلاث نساء للاغتصاب وإدانتهن من المجتمع أكثر من الجناة.
تناولت أدوارها المرأة بكل صورها وغالبية مهنها المجتمعية، فهي المرأة المتزوجة التي تدافع عن القيم والمبادئ والأخلاق النبيلة وتحارب فساد زوجها في “حياة الجوهري”، وهي المذيعة المثقفة ذات الرسالة في “لقاء على الهواء”، والخادمة التي تجاهد شطط بناتها في “الحساب يجمع”، والمستشارة القانونية في “لدينا أقوال أخرى”، وأستاذة الموارد البشرية في “فوق مستوى الشبهات”، والطبيبة في “بالشمع الأحمر”.
يبدو أن حياتها الشخصية الصعبة حولتها إلى امرأة قوية تستطيع مقاومة العقبات والأزمات، ووجدت في الأنشطة الإنسانية وسيلة للمواجهة، فحولت عجزها عن الإنجاب الذي كان سبب طلاقها من زوجها الأول، رجل الأعمال فادي الصفدي، إلى مبادرات اجتماعية تبنتها شخصيا وفنيا، لتدعم بقوة الجهود الرامية لوقف إيذاء الأطفال بدنيًا، ما ساهم في اختيارها سفيرة للنوايا الحسنة لدى الأمم المتحدة.
تسعى يسرا، التي ترفض الاعتزال طالما أن جمال وجهها ما زال محببًا للجمهور وأداءها ضمن المنطقة الجيدة، لتنويع أدوارها باستمرار، فبين سلسلة من الأعمال التي تقدمها في صورة المرأة ذات القيم، تفاجئ الجمهور بشخصية امرأة متخصصة في النصب في مسلسل “شربات لوز”، أو القبول بأعمال خفيفة ظاهريًا لكن ذات مضمون عميق مثل فيلم “ما تيجي نرقص”، التي قدمت فيه الرقص كترياق لمواجهة الملل الذي يقتل الحياة الزوجية.
ولا تقبل الفنانة، التي ربطتها صداقة بالعديد من المثقفين، تقديم السير الذاتية لهم بعد موتهم، فهي تفضل أن يكون التناول في وجود الرموز على قيد الحياة، ربما في اعتزاز لسلسة الأعمال الذاتية التي قدمها المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين عن نفسه، وكانت أحد سر نجاحها. مثل “حدوتة مصرية”، و”إسكندرية كمان وكمان”.
نجومية متصلة
ما يميز تجربة يسرا عن فنانات جيلها أنها وضعت خطة عمل للوصول للنجومية وسارت عليها دون حيد، ففي بداياتها الفنية قدمت أعمالا تجارية هدفها طرح اسمها للجمهور، وأولها فيلم “ألف بوسة وبوسة” العام 1977 الذي كاد يدفعها إلى الاعتزال، بعدما صفعها والدها بمكان التصوير اعتراضًا على قبلة مع الفنان حسين فهمي.
لم توقف مشروعها عند تلك النوعية من الأعمال التي حظيت بانتشار واسع في السبعينات، وانطلقت نحو الدراما لتشارك في سلسلة أعمال أشهرها “رأفت الهجان”، حتى جاءت الثمانينات التي ربطت نفسها خلالها بمدرستين مختلفتين للتمثيل، هما أحمد زكي بأدائه المعقد، وعادل إمام بقدراته الكوميدية.
أسهمت يسرا مع النجمين في نجاح أعمالهما، وجعلها أداؤها محل تفضيل منهما، فعادل إمام وجد فيها نموذج الممثلة التي تشكل شخصيتها وفق أي قالب توضع فيه، فالشخصية الواحدة يمكنها تأديتها بطرق متباينة لا تحمل أي قدر من التكرار، فدروها في فيلم “الإرهاب والكباب” يختلف تمامًا عن دورها في “طيور الظلام”، مع أن الدور عن امرأة لعوب متهمة في قضية دعارة .
حققت أفلام الثنائي عادل إمام ويسرا نجاحا جماهيرًيا لاقترابها من الشارع ومشاكله ونقدها المبطن للحكومة، ففي “كراكون في الشارع” غاص في مشكلات الإسكان بمصر وحياة القاطنين في المقابر، و”الأفوكاتو” رصد التلاعب في القوانين وتسخيرها لخدمة من يدفع أكثر، و”المولد” تناول فساد المقاولين وتلاعبهم بالشباب الراغب في حياة جديدة، و”الإرهاب والكباب” قصيدة هجاء للبيروقراطية والبطالة المقنعة لدى الجهات الحكومية.
تبحث في خياراتها الفنية عن التفاصيل الكامنة في الشخصية وجوانبها غير المرئية التي يجب أن تكون عليها ما يعطيها العمق المناسب والذي يحقق في النهاية الهدف من التمثيل بتصديق الجمهور، وتلك النقطة التي تجعل شخصياتها غير متشابهة في الأداء مهما كانت أوراق السيناريو متقاربة.
مع أحمد زكي استكشفت يسرا آفاقا أخرى من السينما الإنسانية التي تتناول العلاقات بين البشر مثل “نزوة” و”الراعي والنساء” و”امرأة واحدة لا تكفي”، لكنها لم تخل أيضًا من السياسة ليقدما معًا فيلم “البداية” المصنف ضمن أهم الأفلام السياسية المباشرة في مصر، لتركيزه على قضية التلاعب في الوصول إلى السلطة.
طرقت تجربة المسرح في عملين اثنين، هما “كعب عالي” و”لما بابا ينام”، واللذان اعتمدا على البطولة الجماعية لعدد كبير من النجوم، وجاءا ضمن مبادرة هدفها دعم المسرح وإعادة الجمهور إلى باحته بعدما عانى في الألفية الثانية من أفول نجمه لصالح الدراما، ولم تكرر التجربة بعدما وجدت أنها غير قادرة على الإضحاك المباشر. وهي ترى أنها ستواصل التمثيل حتى الرحيل، فكل عمر له أدوار تناسبه، متيقنة من قدرتها على التجديد والتغيير، وتذكر دائمًا بأنه كانت الأولى في جيلها التي تقدم دور الأم، حتى تبعد عن نفسها تهمة ظلت تلاحقها بأنها تبرع فقط في أداء أدوار المرأة الجميلة. فمالت خلال السنوات العشر الماضية نحو الأعمال ذات البطولة الجماعية التي تعطيها مساحة تقدير كبيرة من الجمهور، والمباراة التمثيلية التي يتم تقديمها على الشاشة تساعد كثيرًا في التمييز بين القدرات وإظهار مواهبها التي تختمر بمرور الزمن، فالمشاعر الصادقة لديها القدرة على إظهار الأحداث كأنها حقيقية وليست مزيفة.
تعاني يسرا، التي تنغمس كثيرًا في الماضي وتراه أساسا للحاضر والمستقبل، من حساسية مفرطة تجاه ما يسم كرامتها، فانسحبت من عمل إذاعي أخيرًا لمجرد ذكر اسمها بالخطأ، مكررة أزمة تسببت فيها قبل عقود حينما انسحبت من فيلم “مرسيدس” الذي تناول التغيرات السياسية والإدمان وتجاره المخدرات والتطرف الديني والفساد، بعدما وجدت تطاولا من أحد ممثليه.
سرية وانفتاح
تعرف يسرا كيف تحيط الكثير من تفاصيل حياتها بالسرية التامة، فرغم زواجها من رجل الأعمال خالد سليم منذ 15عامًا لم يعرف الكثيرون تفاصيل عن علاقتهما، فلم يظهر الثنائي في مناسبات فنية معًا، وعرفا كيف يبعدان حياتهما عن الإعلام، قبل أن يظهرا في وفاة صالح سليم رئيس النادي الأهلي الأسبق ووالد زوجها.
اتسمت بآرائها السياسية الجريئة ولم تمسك العصا من المنتصف مثل الكثيرين رغم تعرضها لحملة من قبل جماعة الإخaaaaaaaaوان أثناء حكمها لمصر، حضتها على الاعتزال بعدما طالبت بإبعاد الدين عن تلويث السياسة والتوقف عن تصوير المعارضة على أنها “كافرة”، وعدم التحرش بالفن الذي اعتبرته خطا أحمر وأحد أهم عناصر الهوية المصرية.
في خضم ثورة 25 يناير 2011، تلقت يسرا كما كبيرا من الهجمات عليها بسبب مداخلاتها الهاتفية التي طالبت بحماية مصر والوقوف صفا واحدا والتحذير من خطر الفتنة الطائفية أو انقسام المصريين إلى جبهتين، ووقع شبح الحرب الأهلية بينهم، والتي تم تفسيرها كموقف معادي للمتظاهرين في ميدان التحرير، وتزايدت حدت الأمر مع سفرها إلى باريس لتلقي العلاج في التوقيت ذاته.
تؤمن بالحرية كأحد العناصر الأساسية للنجاح سواء بالنسبة إلى المجتمع أو الفن، فهاجمت الدعوات التي طالبت بخلع الحجاب من منطلق حرية المرأة في ارتداء ما تريد، وانتقدت التنمر الذي تعرض له نجل الفنان هشام سليم، شقيق زوجها، المتحول جنسيًا، واعتبرته أمرا طبيعيا في ظل مجتمع يتسم بضعف الوعي العلمي.
ما يجعل يسرا ظاهرة فنية لا تشيخ أنها لا تمل من مواكبة متغيرات العصر، فأبدت استعدادها للعمل في المنصات الرقمية التي أصبحت مستقبل صناعة الفن، وتلقفت العودة إلى السينما بعد غياب 8 سنوات في فيلم “صاحب المقام” حتى تعود إلى جمهورها الأول، بعيدا عن مساحة الدور في فيلم يتحدث عن الصراع التقليدي بين الخير والشر.
تملك في جعبتها حاليًا كما ضخما من الجوائز عن رحلتها الفنية التي تقارب 200 عمل، ويضم دولاب التكريمات لديها 50 جائزة محلية وعربية ودولية، لكنها تعتبر أهمها هو تقبل الجمهور الذي صاحبها في رحلة فنية طويلة، بحثت خلالها عن مداواة نفسيتها بالفن بينما فتش جمهورها عن المتعة في قدراتها على التجسيد والتشكل.
ما تزال يسرا حبيسة العزل المنزلي، وهي مستمرة باتباع بروتوكول العلاج، تعاني من صعوبة بالغة في التنفس، حتى أنها مضطرة لاستخدام أسطوانة الأكسجين في منزلها، بسبب الربو الذي صاحبها منذ طفولتها، لكنه لم يهزمها ولم يمنع تألقها.