علي المالكي
بداية المحنة
لم يدر في خلد هذه الشابة الآشورية، ان رحلتها مع الألم والخوف والمطاردات ستبدأ عام 1967، فقد كانت تحلم بعالم أفضل لأبناء شعبنا والإنسانية بعد أن استنارت بالأفكار التقدمية وانضمت إلى الاتحاد العام للطلبة. لقد شهدت سنة 1967 كما تقول السيدة شميران (تنامي النشاط الطلابي، وجرت انتخابات وفاز اتحاد الطلبة العام وحدثت مشاكل مع الحكومة، وكنت من المساهمات في التظاهرات الطلابية ولم اداوم سوى شهرين، ثم جلست في البيت بسبب المضايقات من القوى اليمينية والرجعية، ووصلتني تهديدات فتركت الدراسة. ثم أعدت السنة بسبب ذلك، وبدأت عام 68-69 سنة دراسية جديدة مع قدوم البعثيين وواصلت دراستي وكنت من الناشطات، وتخرجت عام 1972.
ممارسة العمل
وبعد حصولها على الشهادة عملت السيدة شميران بأجر يومي في الإذاعة والتلفزيون (القسم السرياني)، وقد أحبت الإعلام. تقول (بقيت أعمل لمدة سنة. وفي عام 1973 شاركت في المهرجان العاشر للشبيبة الديمقراطية العالمية في برلين ضمن وفد الشبيبة ممثلة عن الشبيبة الآشورية، وبعد العودة من برلين تم تعييني على الملاك الدائم).
مشوار التبعيث
وتروي السيدة شميران حكايتها لنا فتقول: (ثم بدأت حملة تبعيث كل شيء في البلد، وتعرضت لضغوط كبيرة من أجل الانتماء إلى حزب البعث، وكنت ناشطة مكشوفة ومعروفة للسلطات، ومع ذلك فإنهم كانوا يصرون على انتمائي لهم ويتهمونني بالانتماء إلى حزب آشوري يعمل خارج العراق تارة، وتارة بالانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي، وبعد مضي فترة من المشاحنات التي جعلتني أتوتر نفسياً تم نقلي إلى مقر وزارة الإعلام في دائرة المشاريع وكنت منسبة إلى القسم، وقد أرسل تقرير مفصل عن حالتي مع كتاب التنسيب وأحتفظ بنسخة منه، وهناك وثيقة تؤكد عدم منحي أية إجازة حتى لو كنت مريضة إلا بموافقة المدير العام.
وهنا بدأت أحوالي تسوء فهذه النقلة أضرت بي مادياً ومعنوياً لأنني كنت أحب لغتي القومية، وكان راتبي 3 أضعاف راتبي في دائرة المشاريع، ومع ذلك استمر الضغط علي والنقل من مكان إلى آخر. وكانت هناك تهديدات فعلية من بعض رجال الأمن في الوزارة).
السفر إلى الخارج
تقول (ومع استمرار هذا الوضع السيء فكرت بالسفر إلى خارج العراق، فقدمت طلب إجازة للسفر إلى خارج العراق إذ شعرت أن حياتي قد باتت مهددة بالخطر، إلا أن مديري قال “لا نمنحك إجازة إلا إذا قدمت استقالة حيث لا تمنح الموافقة إلا لمن يستقيل من الوظيفة”)، وسافرت شميران إلى موسكو وأمضت هناك سنة، ثم عادت مع أن البعض من رفاقها نصحوها بالبقاء إلا إنها أصرت على العودة إلى البلد، وعادت لتجد أن قدر العذاب والقمع كان ينتظرها.
الاعتقال والتعذيب
وعلى ما ترويه السيدة (شميران) فإنها قد اعتقلت في 16/6/1980 ثم اكملت تقول: (قرب المسرح الوطني شاهدت أحدهم يلاحقني وكنت أجلس في باص المصلحة وعلى موعد مع إحدى رفيقاتي، وقد حاولت النزول من الباب الخلفية للباص، نزلت مسرعة ولكنه ركض ورائي، وأمسك بي، فما كان مني إلا أن أقذف بالحقيبة على عدد من المواطنين الذين كانوا يقفون في طابور لشراء الصمون، وصرخت بهم (أنا شيوعية – أنا شميران)، وكانت هناك سيارة تتعقب الباص، فذهب أحدهم ليلتقط الحقيبة وتم اقتيادي إلى الأمن العامة. ادخلوني في دهليز ثم أدخلوني غرفة يجلس فيها أحدهم، طلب مني الجلوس وأخذ يساومني لأتحول إلى وكيلة لهم وقال (بإمكانك أن تذهبي إلى كردستان أو سوريا ولن نتصل بك إلا بعد (6) اشهر، لأن (…) قبلك قد سافرت).
فقلت له: (إنني لا أعرف (…)) ولاحظوا عدم استعدادي للمساومة وكنت في وضع حرج جداً إذ لا أستطيع إنكار البريد الذي كان في حقيبتي.
وبدأ التعذيب باستعمال العصا الكهربائية، حيث تم تمريرها على عدد من المواضع في جسدي، يرافق ذلك أصناف الشتائم، الا اني لم أذعن لهم رغم الألم الذي انهكني، ففكرت أن موتي أشرف لي من التعاون مع هؤلاء، بعدها اقتادوني إلى ممر تفوح منه روائح غير طبيعية وكنت حافية من الساعة الثالثة حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم جاء شخصان يستجوبانني مع الإهانات ولساعتين طالبين مني أن أزودهما بالأسماء والعناوين، فقلت لهما (لقد انقطعت صلتي بالحزب الشيوعي) فواجهاني بالبريد الذي كان في حقيبتي وقلت (هذا آخر مالي ولا صلة لي بالتنظيم الحزبي).
كانوا قد وضعوني في الغرفة التي يمارسون فيها تعذيب المعتقلين، وكنت أجد بقايا دم وأجساد بشرية، شكل هذا المكان (غرفة التعذيب)، تعذيباً نفسياً لي ما زلت أتذكره بمزيد من الألم. وفي غرفتي هذه كان هناك عدد من أدوات التعذيب كالصوندات والعصا الكهربائية وأجهزة الضغط، والفلقة، والى الان ما زلت أعاني من آثار هذه على رسغي.
التعرف على معتقلات
تقول المناضلة (شميران)، (بعد 21 يوماً من الاستجواب المصحوب بالتعذيب الجسدي النفسي، صرت أزحف مع نحل جسدي، فقد تورمت أطرافي، ثم نقلوني إلى قاعة فيها 35-40 امرأة عراقية مقيدات إلى الجدار. جلست قرب الباب وكانت عيناي معصوبتين، ولكنهن تعرفن علي فقالت إحداهن هذه (سوزان)، وعرفتني بنفسها، وقالت لي “أنا هنا منذ 3 أشهر وقالت، ان شهاب هو الآخر معتقل وقد استشهد فيما بعد) كانت هذه الرفيقة (ميسون)، وهي اخت (…).
وفي الليل جاؤونا بالعشاء ثم نادى علينا الشرطي أنا ورفيقتي وضربنا معاً. التي عرفت بعد سقوط النظام البائد أنها قد استشهدت، حيث قرأت اسمها في إحدى الصحف فيما بعد.
وتملكني شعور وإحساس تلك الليلة بأن التعذيب قد انتهى، ولكنهم في اليوم التالي أخرجوني وقيدت على كرسي في الممر وسلطوا علي هواءً بارداً حتى الصباح، ومع صوت القرآن في الصباح أدخلوني إلى الحمام.. ثم أعادوني إلى غرفة النساء واصبت بنزلة برد. وفي يوم 17 تموز سمعنا أنهم سيطلقون سراحنا أو إنهم سيحيلوننا إلى المحكمة لنواجه الإعدام، وتم إخراج السجينات وبقينا أنا ومدرسة من أهالي الدورة، خالجنا شعور بأنهم ربما سيحيلوننا إلى محكمة.. وفي المساء تم الإفراج عنا إلا أن أحدهم قال (لا تفرحن ستعودن).. ودهشنا لأننا وجدنا البقية من المعتقلات يجلسن في السيارة الكبيرة.
إرادة الحياة
وتستمر (شميران) لتقول: (لم أكن لأصدق أنني خرجت من جحيم الأمن العامة، جلست بقرب السائق، وطلبت منه إنزالي في ساحة الأندلس، فاستأجرت سيارة إلى البيت، واستحممت ورتبت نفسي واتصلت بأحد الأصدقاء، وبقيت لسنوات أنام خارج منزل أهلي ولم ار أمي، وعشت في بيوت الرفاق والأصدقاء)، ويبدو أن إرادة الحياة داخل المناضلة شميران مروكل أقوى من سياط جلاديها التي نهشت لحمها طوال أيام التعذيب، فعملت عند إحدى العوائل، تقول حتى عام 88/89 لاحظت أن الوضع قد تغير ففتحت محلاً للخياطة لمدة شهرين ثم تحولت إلى محل آخر مقابل ضريبة الدخل في بغداد الجديدة، واقمت علاقات طيبة في السوق، ولكن الحذر كان يرافقني، واستغرقتني مهنة الخياطة إلا إنني مسكونة بالخوف، ولم انقطع عن التواصل مع القراءة، وشعرت بضرورة تطوير نفسي، فقدمت لكلية اللغات قسم الأسباني وأكملت الدراسة فيها وفي عام 2002 انتقلت إلى كلية الإعلام وسأكون قد حصلت على ثلاث شهادات، وهذا يشرفني.
شكوى ومطالب
وتستطرد بعد ذلك قائلة “قدمت شكوى ضد صدام بسبب ما تعرضت له من أذى وضرر جسدي ونفسي فضلاً عن الحرمان من ممارسة حياتي كامرأة وإنسانة طبيعية في المجتمع، إذ لم يتح لي أن أكون أماً مع إنني أم للعديد من البنات والأولاد الذين شاركت وساهمت في تربيتهم بعضهم هنا والآخر في خارج العراق.
وفي النهاية فإن السيدة المناضلة شميران مروكل أوديشو هي عضوة سكرتارية رابطة المرأة العراقية ومسؤولة الإعلام فيها وعضوة سكرتارية المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي.