ثقافة شعبية

«احمــد فــؤاد نجـم.. مجنـون بهيـّة»

مجنون بهية ليس كسائر المجانين العذريين فهو يزهو بحسيته وشبقه، وينفر من التجريد لأنه يشتهي لو يعصر الحزن او البهجة بأصابعه كعنقود عنب، وحين سمعت النبأ عن رحيله تذكرت على الفور حوارا قصيرا جرى بينه وبيني في دار ميريت بالقاهرة التي يملكها الصديق محمد هاشم، فقد أعطيته مخطوطا شعريا كان قيد الطبع وقرأه ثم طلب مني بالحاح ان اغير العنوان، واقترح ان يكون ‘نعاس أزلي’ وهو عنوان احدى القصائد في المجموعة، وحين سألته لماذا هذا العنوان بالذات أجاب على الفور اننا جميعا مصابون بنعاس مزمن ولن ننام باستغراق الا في القبور، فهل يستطيع نجم ان ينام باستغراق حتى في الموت؟ اشكّ في ذلك، فشهوة الحياة لديه واقباله على مباهجها يجعله فائضا عن مساحة التابوت او السرير الحجري .عرفته عن قرب في القاهرة بفضل صديق مشترك هو د. هاني عنان الطبيب المثقف والناشط السياسي الذي كان له دور مشهود في تأسيس حركة كفاية، وقبل ان نلتقي همس د. هاني بأذني عبارة كانت بمثابة تحذير شخصي من الحكم السريع على احمد فؤاد نجم فهو على سجيته يتدفق في الكلام المشحون بالسخرية دونما مصدّات او كوابح، وهذا ما حدث بالفعل.

 
خيري منصور
 
وتشاء المصادفة ان لقاءنا الثاني قبل ثلاثة عشر عاما كان في منزل صديق لبناني يدير مدارس اجنبية في القاهرة، وحين جاء نجم كان بصحبته رجل ظننته من الحرافيش، ثم فوجئت بأنه ضابط شرطة متقاعد، وطلب نجم من الرجل ان يروي لي حكاية السجّان السجين، وهي باختصار ان هذا الضابط كان مكلفا بالتحقيق مع الشاعر رغم انه يحفظ العديد من قصائده، وبمرور الوقت بدأ الضابط يكتب الشعر فتحول من سجّان مقيّد الى سجين حرّ. في ذلك المنزل الانيق ذي المقاعد الوثيرة وذات السيقان الرشيقة، همس نجم بأذني: اذا اندلعت ثورة الجياع ورأوا مثل هذه المقاعد سيظنون انها بسكويت وقد يلتهمونها ! واثناء عودتنا قبيل الفجر غنّى بصوته المفعم أسى وتعبا :
مصر يمّا يا بهية
يا أم طرحة وجلابيّة
الزمن شاب وانتي شابة
هو رايح وانتي جاية …
وكنت اصغي الى ايقاع آخر يصاحب صوته هو حفيف الأبدية على شاطىء النهر الخالد !
* * * * * *
قبل ان يتسرع القارىء ويقول انتم تكتبون عن انفسكم ام عن الموتى ؟ استدرك على الفور لأقول ان الكتابة المجردة الباردة عن راحل لم نلامس اصابعه ولم تصل سخونة زفيره الى جباهنا هي مهمة نقدية لها اوان آخر ، والرجل الذي وجدته ذات مساء ينتظرني في مقهى ريش ليقول لي بأنه بكى كثيرا على صديقنا المشترك غالب هلسا بعد قراءته ما كتبتُ عن القاهرة في مجلة ‘وجهات نظر’ بعنوان ندّاهة اليتيم، هو الذي مات بالنسبة لي وليس الفاجومي او اعماله الكاملة، فلكل فقدان بُعدان احدهما تجريدي والآخر وجودي محسوس حتى القشعريرة !
كان نجم بالنسبة لجيلنا احد رموز مرحلة لا تقبل التكرار في العقد الفريد من القرن الماضي وهو الستيّنات بتجريبيّته واخفاقاته واحلامه وانكساراته، لكن من يجهل ظروف المثقف العربي سواء كان مستشرقا او مستغربا هو وحده الذي لا يعرف كم يكابد هؤلاء، انهم ليسوا ورثة نجيب سرور وأمل دنقل فقط، بل هم توائم لهؤلاء. فالحصار لا يبدأ من السلطة فقط بل هو تحالف شيطاني بينها وبين الفاقة والمرض والاقامة في حوشِ يندر فيه الاكسجين، ذلك الحوش الذي عاش فيه نجم ولم يغادره الا بعد الزلزال، كان لديّ فضول في الذهاب اليه، لكن مع شخص آخر أقام مع نجم زمنا وكان اسمه المستعار والمضلل لأجهزة الامن، الشيخ جمال، وهو رسام الكاريكاتير في صحيفة الاهالي، حسنين، الذي تعرّض عموده الفقري للتدمير وهو ينتقل من زنزانة الى زنزانة أضيق وأكثر رطوبة.
* * * * * * * * *
للعامية المصرية سحرها، فقد اجتذبت شعراء من اصول غير مصرية، كفؤاد حداد وبيرم التونسي ليس فقط لأنها عبرت الحدود بفضل السينما والدراما فقط، بل لرشاقتها ايضا، فهي ذات ايقاعات سريعة واحيانا خاطفة، كما ان ما تزخر به من مفارقات يجد له سبيلا الى الشّعر، ومثال ذلك ما قاله نجم : 
الزمن شاب وانتي شابّة
ولو ترجمت هذه العبارة الى أية لغة لفقدت على الفور دلالاتها ومفارقتها واصبحت: الزمن شاب وانت ايضا شابة مثله، وهذا هو بالضبط عكس المقصود بالعبارة .
كان السؤال الطبقي المهاجر الى الشعر هو ما دفع احمد فؤاد نجم الى الوقوف في منتصف المسافة بين القصر والعشّة، وذلك قبل ان تصبح العشش عشوائيات تقضم مساحات واسعة من ارض القاهرة كما تقضم الطبقة الوسطى التي كانت حاضنة الابداع والحراك السياسي لزمن طويل، وكان نجيب محفوظ مؤرخها الروائي بامتياز وقد يكون عاشق بهية ومجنونها في زمن العقلاء في الحب والمجانين في الاقتصاد والسياسة اشكاليا، وقابلا لعدة قراءات خصوصا من خلال مواقف سياسية.
اذكر انه عندما ظهر على شاشة فضائية امريكية لكنها ناطقة بالعربية، عاتبه بعض الاصدقاء لأن ذلك الظهور كان مُتزامنا مع احتلال العراق، لكن المبرر الذي كان يلوذ به نجم له صيغتان واحدة للغرباء والاخرى للاصدقاء !
كان يقول للغرباء المهم ما تقول وليس المنبر، وكان يقول للاصدقاء ان اعباء الحياة ثقيلة ولا ترحم، ولا أظن ان الشاعر اذا كان من طراز نجم مطالب بأن يحوّل حياته على امتداد عمره الى ما يسميه حجازي لاعب السيرك، فإما التصفيق او السقوط والموت، حيث لا يسمح للاعب السيرك بأي خطأ شأن سائر البشر.
ورغم وجود شعراء مبدعين بالعامية المصرية الا ان فؤاد نجم يبقى ذا مذاق خاص، سواء من خلال جرأته على استخدام مفردات مطرودة من معاجم الشعراء او من حيث تشكيل صور تراوح بين ذروة الواقعية والسوريالية.
ونجم لم يكن جسده النحيل امينا على روحه وموهبته تماما كما تؤتمن المحارة القاسية على مكنونها، فقد أرهق جسده وحمّله ما لا يطيق حتى وهو يتجاوز السبعين لأن شهوة الحياة لديه بلا حدود، فما اقسى ان لا يقوى البدن على حمل الرّوح.
* * * * * * * *
انه شأننا جميعا لم يملك حق اختيار زمان موته، لكن جسده رغم ما ينوء به من حمولة قاده الى مسقط الرّوح بعد ان كان لأيام خارجه، وكأنه شمّ عن بعد رائحة الجذور النباتية وهي تسيل تحت ضربات المعاول في الأرض التي احبّ وغنى، وآخر ما يخطر ببال من رأى الشاعر حتى في مرضه وشيخوخته هو الموت لأن اقباله على الحياة يرشح من اصابعه وعينيه وما نخشاه هو أن يختزل الفاجومي مجنون بهية الى مواقف يتم انتقاؤها من سياق عضوي ونصّ حياتي طويل، وبالتالي ينفذ عليه حكم اعدام جائر طالما تعهّده راديكاليون وغُلاة أنكروا حق الانسان في الألم والخوف من التشرد والفاقة، اما القول بأن اقتران اسم نجم بالشيخ امام هو ما فتح له الآفاق فهو يذكّرنا بما قيل مرارا عن تجارب فنية مشتركة بدءا من المسرح الكوميدي ومن خلال الثلاثي الذي انتهى الى واحد، او حتى من خلال اعمال فنية مشتركة كالتي جمعت بين المهندس وشويكار او ام كلثوم ورامي.
رحل مجنون بهية في وقت رمادي، وفي غسق اللحظة التي لا الليل فيها ليل ولا النهار نهار!

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان