ثقافة شعبية

قامة شامخة في تاريخ العراق الحديث

ارتبطت بعلاقة تاريخية طويلة بالشاعر الفقيد زاهد محمد زهدي، دون أن أراه أو التقي به حتى وفاته، فقد سمعت وقرأت عنه الكثير وخصوصا ما كان متداولا بيننا من أشعاره وروائعه الوطنية وأناشيده التي كانت منشورا سياسيا معبرا عن آمال وطموحات الجماهير، وما له من تاريخ مشرف في الحركة الوطنية وطليعتها الحزب الشيوعي العراقي صاحب البصمات الواضحة في النضال الوطني لعقود.

محمد علي محيي الدين

 
 وكان لبرامجه الإذاعية الكثيرة تأثيرها المباشر على المستمعين،بما فيها من جدة وأصالة،وخصوصا برنامجه الذائع الرائع عن الشعر الشعبي الذي يقدمه من دار الإذاعة العراقية وقد أستحوذ على اهتمام المستمعين وإعجابهم وأضاف جديدا لمدرسة الشعر الشعبي العراقي ،ومن خلاله ظهرت عشرات الأصوات الشعرية التي شكلت علامات بارزة في ميادين الشعر والأدب،وكانت تساعده في تقديمه الفنانة القديرة زكية خليفة ذات التوجه الوطني المعروف،ولكوني من شداة الشعر وبغاته ومن الراكضين وراء من يكبرنا من الشعراء،ومن المحسوبين على الخط اليساري وأن كنت وقتها من الهامشيين،فقد أعجبت به الإعجاب كله وكنت أجمع في دفاتري الغرر من قصائده وقصائد النخبة الوطنية المقاتلة من شعرائنا الشعبيين،وبدأت أتسقط أخباره وأتابع أثاره،وكنيت نفسي بأبي زاهد رغم أني لم أكن متزوجا آنذاك،فكنت أكتب أشعاري وأذيلها بكنيتي الأثيرة (أبو زاهد)حتى أني أشرت لذلك في قصيدة كتبتها عام 1970 بعد الرحيل الإجباري عن بغداد قلت فيها:
كضيت أيامي ابغداد حسره تغار من حسرة
أقاوم للدهر مرات ما ذليت فد مره
وعلى ليل القهر سليت سيفي وما ظهر فجره
أقاوم وبأمل غركان بلجي تلوحله العبره
 وأناضل والدهر ما لان عوده ولا ضعف أمره
جلولاء وتكت احزان
نسافرله بجدم تعبان 
    مقرنه صار هالمره 
           ***
تعال وأسأل الحدباء
 وأسأل عني بالخضراء
وأسال عني بالسولاف وفينا بلياليها
وسأل عني بالبحرين غنيت الشعب بيها
واسأل عني بدروب العشك وأسأل محاريها
تلكاني هذاك آني ..بعدني آني
 أبو زاهد وأضل بكل وكت فكره
وأظل نوماس للطيبين لن الجابته حره
وأظل ما زلن أجدامي بدرب فد يوم شايل رايتي الحمره
وعندما ولد ولدي البكر أسميته (زاهدا) رغم معارضة الأسرة واختيارها لأسماء عدة منها ما هو جديد يتلاءم وطبيعة أسماء تلك الفترة،ومنها ما هو على أسماء أبائي وأجدادي الميامين،ومنها ما هو على أسماء الأئمة من آل البيت،ومنها ما عبد وحمد وجمد إلى آخر الاعتبارات في اختيار الأسماء للعراقيين،ولكني رفضت الجميع وأعلنتها ثورة عاصفة بإصرار غير مسبوق على أن يكون زاهدا،وحجتهم أنه ليس من الأسماء المألوفة،فقلت لهم ولكن هناك الشاعر زاهد محمد وهو أثير في نفسي،فقالت الوالدة رحمها الله(منين أجاني زاهد هذا زهده البين) تلك هي علاقتي بالشاعر زاهد محمد زهدي،وهي علاقة طويلة أمتدت لعقود،وعايشته متمثلا بولدي البكر لثلاثة عقود،رغم أنه لم يصبح شاعرا أو أديبا،بل أختار الطب،فكان زاهد الأول طبيبا للعقول والقلوب،والثاني همه أن يأخذ ما في الجيوب.
وكانت لي سياحة طويلة مع دراسته الرائعة عن الملا عبود الكرخي التي صدرت عن وزارة الأعلام العراقية،في أوائل السبعينيات،وكانت دراسة واسعة رائعة تناولت جوانب مثيرة من شاعرية الكرخي أبدع فيها أيما أبداع،والرائدة بين الدراسات التي تناولت الأدب الشعبي نحى فيها منحى أدبيا رائعا،وبمنهجية عالية دلت على قدراته في الدرس والتحليل والاستنباط،ولا زالت جديدة رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود على صدورها،ولا أعتقد أن أحدا كتب عن الكرخي دون أن تكون هذه الدراسة من مصادره لما فيها من جدة وإبداع،وكانت لي عليها ملاحظات وتعليقات نشرت في مجلة التراث الشعبي آنذاك.  واليوم حاولت أن أطوف في عوالم الفقيد زاهد محمد الشاعر والأديب والسياسي والإعلامي الذي احتلت برامجه مكانا خاصا في الذاكرة العراقية،ولا زال الكثيرون يتذكرونها لما تركت من آثار وبصمات على الكثير من البرامج التي جاءت بعدها، لما تميزت به من جدة وإبداع.  لقد كان برنامجه عن الشعر الشعبي مدرسة حافلة بكل ما هو جديد،وقد تخرج عن طريقها الكثير من الشعراء،وعرفهم الجمهور،وكانت له ملاحظاته على القصائد التي لا تصلح للنشر ،وكانت ردوده في منتهى الرقة والشفافية بما لا يحبط من معنويات الآخرين ،فكان يختار كلماته بدقة للتعبير عن رفض هذه القصيدة أو تلك بما لا يؤثر على نفسية قائلها،وربما تكون له توجيهاته النافعة لكاتبها بما تنفعه في محاولته القادمة،لذلك كان الجمهور يتابعها بترقب،كما يتابع برنامج خالد الذكر شمران الياسري(احجيها بصراحه يبوكاطع)،وكان لهذين البرنامجين تأثيرهما الواضح في الأوساط الشعبية العراقية وخصوصا بين الجماهير الفلاحية التي أخذت تستنير أفكارها بفضل ما تستمع إليه من هذين البرنامجين،وكان لهما التأثير المباشر في الاستقطاب الشعبي لجانب الثورة في بداياتها الأولى,  وكان برنامجه الآخر الصوت المعبر عن الهم الوطني والفكر الشعبي الرافض للتدخلات الخارجية في الشأن العراقي عندما وجه عبد الناصر سمومه إلى الثورة العراقية من خلال المأجور أحمد سعيد الذي كان بوقا من أبواق الردة والعمالة وإشاعة الأراجيف ضد الشعب العراقي فكان لزاهد محمد قلمه الشجاع الذي أفحم هؤلاء وكال لهم الصاع صاعين وبرنامجه الرد الحاسم على تخرصات إذاعة صوت العرب التي كانت رأس الرمح (كما هي اليوم) في محاربة الشعب العراقي وثورته ،لغايات دنيئة همها الاستحواذ على الأموال العراقية تحت ستر باهتة تلفعت أبراد القومية المزيفة،والعروبة التي تأبى أن يكون هؤلاء من قادتها والذائدين عنها لما في أنسابهم من الزيف والغش الذي يعرفه الجميع.  وبرنامجه الرائع (غيده وحمد) من البرامج التي ألهبت الجمهور وجعلته يتابعها باهتمام ،وأشركت الريف العراقي في الاهتمام بمتابعة الإذاعة العراقية،مما جعلهم على شيء من المعرفة والاطلاع ،والمتابعة لما تذيعه وسائل الأعلام.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان