ثقافة شعبية

مظفـــر النـــواب نموذجـــــاً

م.م احسان العجلان /  الجزء الثاني

 

 يحاول البحث أن يسلط الضوء على جانب مهم من جوانب الحركة الصوفية ، المتمثل بالجانب الثوري ، إذ إن المتابع للحركة الصوفية يستطيع أن يلحظ ملمحا ثوريا بارزا عند بعض أعلام التصوف كالحلاج، ويستند البحث إلى مقولات المفكر هادي العلوي عن الجانب الثوري في الحركات الدينية ، وكذلك ما ذهب اليه الدكتور عبد المحيي اللاذقاني عن الحلاج ودوره في ثورة القرامطة . ويحاول البحث رسم مقاربة ادبية تتوخى استقراء البعد الصوفي الثوري عند الشاعر المناضل مظفر النواب، لأنه قد استخدم رموز الصوفية بوصفها رموزا ثورية في محاولة لتأصيل فكرة التصوف الثوري من خلال قصائده ، فيعرض البحث مصطلح ( التصوف ) وأصله ، في محاولة لتقصي ملامح هذه التجربة المعرفية التي تعتمد المعرفة القلبية الموازية للمعرفة العقلية كما يرى المتصوفة ، كما ويسلط البحث الضوء على مقاربة التصوف للفلسفة ، والشعر باعتبار ان كليهما ينهض على تجربة تأملية ذاتية مستقاة من تخيل عميق يسعى إلى بلوغ أقصى درجاته في التجلي والإلهام.

 
إن شعر النواب ، يستبطن ملمحاً صوفياً بارزاً يتجلى في العديد من القصائد التي كتبها الشاعر .
وقد تأتى هذا الملمح من اضمار الصوفية بوصفها انقلابا معرفيا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي  بعدا ثوريا يطمح إلى تغيير الواقع الاجتماعي سياسيا ودينيا واقتصاديا . وتبدو ملامح هذا البعد من خلال الموروث الصوفي المرتكز في أساساته إلى رموز وشخصيات ذات طابع معارض لهيمنة الدولة وسياساتها الإقطاعية كشخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام و الصحابي أبي ذر الغفاري رضي الله عنه . 
فهاتان الشخصيتان تعدان المحرك الأول للتصوف الثوري القائم على مناوأة الدولة بوصفها مؤسسة امتيازات سلطوية . ناهيك عن محاولة ربط نشأة التصوف بالإمام علي بن أبي طالب من خلال جبة الصوف التي ألزم الحسن البصري كما يروى بلبسها . فهذه المسالة لا تفيدنا بشيء سوى التأكيد على التصاق هذه الشخصية بالتصوف منذ نشأته . 
ومايهمنا هنا بصوره أكيدة ، البحث عن ما يدور حول التصوف من آراء تمثل المتصوفة والدولة ،وموقف كل منهما تجاه الآخر .
فالمتصوفة من جانبهم كانوا ينظرون إلى الدولة بوصفها  (( شيطان تتألف من شياطين وفعلها شيطاني وسلوك أربابها شيطاني. وشيطان من يعاملها)) وعمادها الأغيار عباد الحس والشهوة الذين يمثلون أساس الظلم الاجتماعي، فالدولة العربية  (الأموية والعباسية)  قد ابتعدت في نظامها الاجتماعي عن التعاليم الإسلامية والقيم العربية القائمة على المساواة وإغاثة المظلوم وإنصافه من ظالمه، وألقت على كاهل الناس أحمالا جمة، تمثلت بالضرائب القسرية الباهظة والتجنيد الإلزامي لتعبئة جيوش الفتح الهادفة إلى احتلال الأراضي  المتاخمة للدولة ، والاستفادة من ثرواتها لزيادة العائدات في بيت مال المسلمين الذي لا يربطه بالمسلمين غير اسمه ، فالأموال إنما تعود للخليفة ومن حوله، ينفقونها على ملذاتهم وأهوائهم كيفما اتفق دون حساب . 
من هنا اندمجت نشأة الصوفية المرتكزة على الزهد في بادئ الأمر بالمحاولة إلى تصحيح مسار الدولة فمثلت ((  ردا على عسف الدولة وطغيانها من جهة ، وعلى اشتداد التفاوت الطبقي من جهة أخرى ))  
فارتبط التصوف بالجياع والفئات الدنيا من المجتمع في حركة تضمر التمرد على الطبقات المرفهة المتخمة. 
ونبذ المتصوفة الدولة وحرموا الاقتراب والتعامل معها، فمنعوا الأخذ من السلطان والعمل عنده، وتشددوا في ذلك حتى وصل بهم الحال إلى تحريم النظر إلى القصور، ومشاعل السلطان التي ترافق موكبه، والاستضاءة  بها . 
ويرى المفكر هادي العلوي إن الدولة هي جبهة المعارضة  الأولى عند الصوفية وتتكامل معها جبهة المال، فللمال سلطته المتحالفة مع الدولة ولهذا وضع المتصوفة الأغنياء في خانة الأغيار الذين تجب مقاطعتهم وعدم التعامل معهم، وامتدت المقاطعة إلى المجالسة والمصادقة ، جريا على رأي أبي ذر الغفاري  فالتشديد في مقاطعة الدولة شكل غير مباشر من أشكال التحريض عليها .     
والشكل الآخر من أشكال تمرد المتصوفة على الدولة يتمثل في التجاوز الصوفي لظاهر النص الديني والغوص في باطنه، في محاوله لقلب الفقه السائد الذي يشكل عصب الدولة الأساس.إذ إن أهل الظاهر يفكرون ويعملون ((  وكأنهم يملكون النص القرآني ، نص الوحي ، ملك استئثار واحتكار ـ بحجة الحفاظ على الدين . وهذه ليست في الواقع إلا حجة للحفاظ على السلطة القائمة ))   
فعقيدة الحلول تجعل من الصوفي المجتهد إله، إذ إن التذاهن عنـد الصوفي ((يقترن بالندية التي يترادف فيها الانا مع الهو ))  وهو بهذا يجعل الصوفي بمرتبة أعلى من مرتبة خليفة الله، إذ إن لأرادة الصوفي الإنسانية ما للإرادة  الإلهية من قدرات، وبهذا يصبح الخليفة شيئا زائدا عن الحاجة ، الأمر الذي يؤدي إلى سقوط الاعتراف بالسلطة الشرعية ونظامها الحاكم.   
وهذا الموقف هو ما جعل الدولة تقمع المتصوفة الذين اظهروا مبادئهم وخالفوا ما اتفق عليه العامة من قراء وفقهاء ومتكلمين ،وهو ما أدى إلى مصرع الحلاج صلبا وتقطيعا وإحراقا . 
ولعل سائلا يتساءل بعد ما تقدم قائلا : وما علاقة هذا بالنواب ؟ والجواب يأتينا من النواب نفسه في حوار صحفي إذ يقول :ـ
(( الصوفية هي تأكيد على كرامة الإنسان قبل كل شيء ، ولهذا جاءت مقارعتهم للظلم ، فقد أكدت على كرامة الإنسان ومنزلته ، واعتقدوا إن الإنسان فيه صفات الربوبية ، لكن الأنظمة تقف بالضد من هذا ، فهي تمتهن كرامة الإنسان ولهذا حاربت هذه الأنظمة الصوفية ، إذا حولوها من حركة تاريخية فاعلة إلى دروشة )) .   
و قد جسد النواب ذلك في قصائده بصورة ملحوظة، فهو يرى بان الالتزام الثوري مع الفقراء يمثل الخروج الحقيقي من الناسوتية إلى اللاهوتية: 
       فان العودة للإنسان وحمل السيف مع الفقراء 
        هو الله جميعا  
        =   =  =
 إن الله لايقبل إلا بالبواريد السلاما   
 فالمعارضة عند الصوفية حتمية لأنها مقام . والمقام صفة لازبة في ذات الصوفي، راسخة بالمجاهدة لأنها منزل من منازل السائرين  إلى الله وعليه فان التصوف لدى النواب يسعى إلى اتخاذ موقف ثقافي ملتزم بالالتحام بصفوف الكادحين والفقراء والمحرومين الذين يمثلون جبهة المعارضة الشعبية لسلطة الدولة ومن التف حولها من الأغيار .
         وهذا لمن يدرك الباطنية في العشق بعض انتمائي 
        إنا انتمي للجموع التي رفعت قهرها هرما 
        وأقامت ملاعب صور وبصري
        وأضاءت بروج السماء بأبراج بابل
        إنا انتمي للجياع ومن سيقاتل 
        إنا انتمي للمسيح المجذف فوق الصليب 
        وقد جرح الخل خد الإله على رئتيه
        وظل به أمل ويقاتل 
        لمحمد شرط الدخول إلى مكة بالسلاح
        لعلي بغير شروط 
        وللربذي يدق على قحف كل غني 
        فما زال منهم كثيرون حول معاوية يضربون الصنوج
        ويرعون شأن الحروب 
        أنا انتمي للفدائي .. ولرأس الحسين …. 
       وللقرمطية كل انتمائي 
 لقد استطاع النواب أن يخترق الزمن بهذا الانتماء، ناحتا في ذاكرته انتماءً خاصا، فهو لايصف نفسه بقدر ما يصف ويؤكد قضيته / قضية الإنسان الثائر القائمة منذ القدم.  مؤكدا انتمائه إلى الجموع التي حفرت اسمها في التاريخ رغم شقائها ، فهو باستحضاره الآثار العظيمة ( الأهرام ـ ملاعب صور ـ أبراج بابل ) . إنما يستحضر جموع الكادحين الذين بنوها تحت وطأه ظلم الحكام وسياط استعبادهم اللاهبة على الأكتاف الدامية في محاوله لأدانه السلطة القمعية والتحريض عليها . 
ويؤكد هذا الانتماء بصوره ملحة تنسـاب من خلال تكرار الجملــة الخبرية        ( أنا أنتمي ) .  
 

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان