حسين الهنداوي / الجزء الثالث
هذه حكومات يا سيدي لديها علاقات رسمية وشخصية مع هذا الرجل ولديها وفود مفاوضة ومخابرات واستخبارات ومخبرين من جميع الأوصاف ومع ذلك لم تستطع كل هذه الجهات أن تحسم إن كان وطنياً أو عميلاً( يقصد البارزاني )!! كيف تريدني أن أُقرر أمراً وليس عندي أي دليل؟ هنا بلغ الغضب أقصاه لديه، فقرر اضافة مادة جديدة- غير المادة التي جئت بموجبها والتي تحكمني ستة أشهر- وهي المادة 31 (تهديد أمن الدولة) وحكمني بموجبها بالسجن لثمان سنوات اضافة إلى ستة أشهر وسنتين أخرى تنفيذاً لحكم غيابي سابق. لكن غضبه لم يقف عند هذا الحد. اذ بعد ان أصدر الحكم أشار بحاجبه إلى الحراس بأخذي، فتصورت الأمر قد انتهى لكني فوجئت بعشرات الأيدي تنهال من ورائي عليَ بالضرب في قفص الإتهام وأمام أنظاره وأنظار هيئة محكمته! ما كان بمقدوري أن أفعل أي شيء إزاء استمرار الضرب إلا الصراخ بوجهه هو وهيئة محكمته بكلام تحول إلى مادة للتندر من قبل المحكومين الآخرين لأنني كنت أُردد عبارة (مجرمون.. احكموني تسعين سنة لماذا تضربوني؟)، اذ يدور التندر حول لماذا قلتُ تسعين سنة ولم أقل مائة؟!”
مشهد من مدينة حديثة الغنية بالنواعير ويذكر الشاعر العراقي الفريد سمعان ان سعدي الحديثي حل مع مظفر النواب في قاعة رقم عشرة من سجن نقرة السلمان الصحراوي – المخصصة لاستيعاب ستين فردا فضمت اكثر من مائة واربعين معتقلا- بسبب افكاره السياسية على الارجح. وفيما كان مظفر النواب يشترك في القاء قصائده المتمردة، كان سعدي الحديثي، كما روى سجين كان معهم، “يصعد بمقام يشد الابصار والايدي ويخرج الاذان عن صمتها وتتوقف الحركة برهة.. واحيانا يستجيب مظفر له ويصبح العشاء غنائيا اذا صح التعبير“، اذ شكل سعدي مع مظفر ثنائيا في الغناء والشعر أضاء ليل السجن الصحراوي ذاك وابدع في تجديد الأغاني الشعبية والبدوية بالنسبة لسعدي خاصة الذي اعتبر الأغنية الملتزمة بما فيها الوجدانية، هي رسالة كما ان القصيدة الشعرية هي عند مظفر النواب رسالة أولاً وقبل كل شيء.
من جانبه كتب الفنان التشكيلي يحيى الشيخ السجين السياسي السابق في سجن السلمان مع مظفر النواب وسعدي الحديثي: “كان مجلسنا أغاني مبحوحة وقصائد ونوادر وحكايات وكل ما ينفينا الى خارج السجن… واحد من بغداد والآخر من حديثة والثالث من العمارة… ثلاثة مشاريع لثلاثة مصائر”.
ويضيف سياسي آخر كان في ذلك السجن: ان مظفر وسعدي التقيا ايضا في أمسيات مشتركة كان يتم تنظيمها من قبل اولئك السجناء في ساحة كرة السلة داخل السجن “نشدا خلالها كلمات الحب والثورة، عبر صوت واحد في صوتين انطلق جامعاً قلوب تلك الآلاف التي تطحنها آلام السجن وبعدها عن الشعب الجريح ومع صوتهما وبفعله تمتلئ ربايا السجن من كل جهاتها بالسجانين يتفرجون ويسمعون، قد يفهمون ما ينشده سعدي ومظفر وقد لا يفهمون”. ويذكر السيد محمد علي الشبيبي في مؤلفه “ذكريات الزمن القاسي” عن تجربته في ذات السجن: ان الأماسي تكون ذات نكهة خاصة عندما يحييها مظفر النواب وسعدي ألحديثي بصوته ذو النبرة المتميزة بطريقة غنائية يتناوب عليها الإثنان. كان صوتهما يملأ فضاء ألسجن حتى يتخيل لك أن هذا الصوت ألجميل الذي يجمع بين صوت إبن المدينة وصوت البدوي إبن ألصحراء يخترق هذه الصحراء الشاسعة ليصل الى أطراف ألقرية.. كان صوتهما يشق سكون ليل الصحراء الصيفي ليقول لكل من يسمعه نحن هنا نحطم قيود ألسلطة الدكتاتورية ونتحدى ارهابها بصوتنا، رغم تعسفها وإضطهادها لنا سوف نبق ننشد للحياة وكلنا أمل بأن قضية الشعب ستنتصر”.
هذا الرصيد من التاريخ والتضحية لا نجده الا لدى ندرة من الفنانين والشعراء العراقيين او العرب الآخرين. واذا كان عقد هذا الثنائي النضالي سيضطر الى الانفراط، فانه سيعود بعد 1995 الى التألق من جديد كثنائي ثقافي في المنفى هذه المرة ليثمر عن تسجيل عدد من الاشرطة والاسطوانات، وعن احياء عدد من الامسيات الشعرية الغنائية البديعة في لندن اولا ثم في السنوات الاخيرة في برلين وشيكاغو وهارفرد وبوستون ودبي والبحرين وغيرها من عواصم الدنيا نالت اصداء فنية واسعة، انما دون احتراف ودون اتجار دائما.
وكما كتب أحد النقاد مرة، فان “السر في عظمة غناء سعدي الحديثي انه يرفض مصاحبة اي آلة موسيقية لغنائه ويعتمد كليا على صوته وكلماته”. السر الآخر برأينا هو اننا امام فنان يعيد للعراق كإعادة فلذة الكبد، فنّا رفيعا كاملا وموثقا كان قد هاجر من موطنه الاصلي على ضفاف دجلة والفرات إلى مصر مرورا ببلاد الشام منذ ازمنة سقوط بغداد تحت حكم المغول عام 1258، ولم يعد منه في العراق سوى تلك القطع الموسمية والمتقطعة التي كنا نسمعها من اشهر مغني البادية العراقية قبل سعدي لا سيما جبار عكار وملا ضيف الجبوري وابو جيشي مطلك الفرحان وكذلك حضيري ابو عزيز في النايل الجنوبي وآخرون. وسعدي الحديثي يتميز عليهم جميعا ايضا بكونه ليس مجرد قامة صوتية مثقلة بالخصب والاصالة، انما في كونه ايضا شاعرا وخبيرا منهجيا فريدا في توثيق موسيقى البادية، فهو يغني أغاني البادية القديمة ويجددها وينظّر لها ويؤسس لفن الموسيقى الشعبية مادة معاصرة تواكب تطور هذا الفن عالميا.
“لم أسمع أحلى من صوته الجميل” سيكتب الكاتب الكويتي محمد الرميحي اثر استماعه لسعدي الحديثي يؤدي مجموعة من نصوص الغناء الشعبي البدوي في امسية حضرها في دبي عام 2003.
وبالفعل، انها عالم رحب بالفطرة وانساني هي حنجرة سعدي الحديثي الرخيمة، حيث يشعر كل مستمع بشوق ما للتماهي للحظة او اخرى مع تهاديات صوت منغّم، باسق وعميق، يحمل قلبه وتاريخه بيديه متعاليا برهافة تحمل، حتى في هياماتها ومنافيها الابعد، روحا عراقية صافية وضميمة انسانية كونية تتغلغل بين الجوانح حتى اليابسة جدا منها، ولسان قلبها ينبض بالحب والحنين الى نفس تلك الاعالي وتلك الوجوه:
يا عابرْ الليلْ لديارْ الأحبها ترِدْ
ما تفعلْ الروحْ عنْ اللي تِريده ترِدْ
گلْهمْ لَهَنّه ريامْ الْ علْمِنابِعْ تِرِدْ
ما تشربْ الماي إلا رايگ وجاري.
وآنا على الدومْ حافظْ لابتي وجاري
لا گولْ ويلي ولا اشچي العليّ جاري
مطَّمنْ ومعتِقِدْ ذيچ الليالي تِردْ








