لقد رحل ابن الوردية وهو في الستين من العمر وترك قصائده المغناة يتيمة تتذكر كاتبها وتبكي بألم وحسرة على شاعر نهبه المرض والغبن والاهمال وسرقه الموت وتجاهله الكثير من الاصدقاء والاصحاب عاش وملأ الدنيا ضجيجا وشعرا وغناء وغزل ورحل بصمت مثل الشموع عندما تذوي محترقة من دون ان يشعر بها السائرون على ضوئها قبل انطفائها .. رحل وفي القلب حسرات وغصص واماني واحلام واغاني وقصائد لم تكتب بعد ..رحل وترك فراغا في نسيج الاغنية والقصيدة المغناة .. رحل وهو قادر على العطاء .. رحل جسده من الاردن وروحه لاتزال تحوم فوق الوردية والمدحتية والصالحية والحيدرخانة والحلة وبغداد .. رحل وترك خلفه الف سؤال وسؤال تبحث عن اجابة .. رحل وها نحن بعيد رحيله بسنوات خمسة نجري معه حوارا مفترضا نسأله نحن ونجيب بدلا عنه من دون ان نفكر بأن الشاعر سيقبل او يرفض مادام غرضنا تسليط بعض الضوء على امور مرت بعجالة او وسط زحام الحياة.
• من هو كاظم الرويعي ..؟
• انا ابن الوردية الحالمة على ضفاف الفرات ..انا ماء نواعير العتايج والحصين .. ابنا ابن الحمزة الشرقي انا ابن بابل وبغداد والعراق انا ذلك الفراتي الذي فاض برقة وعذوبة يوم تغنى بأهله ووطنه وشدا للحب والمحبة والناس الطيبين .
• من الهمك الشعر ياايها الرويعي .؟
• نواعير العتايج وبساتين الحصين ووداعة الوردية وغناء فلاحة وجمال صبية من الصالحية وصمت درويش في الحيدر خانه ورحيق العنب ..
• ( ينجوم صيرن كلايد ياكمر شذره ) من هذا الترف الذي طوقته بكل ذلك .؟
• حبيبي وقد يكون وطنا او أمرأة او شيئا اخرا المهم انه حبيبي وعادة مايحصل حبيب الشاعر على الاجمل .
• خصصت المطرب سعدي الحلي بكثير من قصائدك الجميلة هل هناك سبب .؟
• ليس لأن سعدي ابن الحلة فقط لكن لصوت سعدي ميزة لاتتوفر باصوات الاخرين الشجن الفراتي والعذوبة البابلية اضافة الى انه اكثر من يفهمني وقد نجحت قصائدي بصوته بدرجة عالية وهو كما تعلم مطرب مطلوب على المستوى الريفي والحضري وفازت احدى اغانيه بسباق القرن للاغاني في العراق وتقدم على كل المطربين ولو تسنى لك ركوب سيارات الاجرة لسمعت ورايت كيف يعرض سواق هذه السيارات اغاني الحلي حتى في حالات التشدد الديني .
• كنت ابنا لرجل دين وكان الطريق المتوقع ان تكتب قصائد دينية او تصبح منشدا خصوصا وان بيتك قريب من مرقد امام ووالدك من السدنة فيه ما الذي دفعك الى طريق الاغنية وهي مرفوضة .؟
• ليس من الضرورة ان يكون ابن الحلاق حلاقا وانا اعجب لمن يعيش في الوردية تلك البقعة الحالمة وهي تغفو على ضفاف نهر يندفع بكل عنفوان الا عند مروره بها فأنه يتهادى كعاشق ولهان ولايريد مغادرتها ولوتسنى لاحد الجلوس في احدى كازينوهات الكورنيش المطل على النهر ورايته كيف يتلوى عشقا وهياما بالوردية لتكلم شعرا حتى لوكان غير راغب بذلك .
• عرفك الناس شاعر غنائي بامتياز وعرفتك النخبة والشرطة السرية شاعر يساري بامتياز ايضا .. كيف تنتقل من حيز الى اخر .؟
• منذ النصف الاول للقرن العشرين ارتبطت الحياة الثقافية العراقية عموما والشعر العراقي خاصة بتطور وعي الحركة السياسية العراقية ومعتركها الثقافي العام، حيث انتعشت الحياة الادبية وارتقت مع تنامي الحياة الفكرية وتجاربها الانسانية داخل اليسار العراقي الممتلك لجماهيرية كبيرة آنذاك في الشارع العراقي، حيث ترسخت رقعة التجديد الثقافي في خمسينيات القرن الماضي، هذا التجديد الثقافي والادبي الكبير والمتسع في التأثر والتأثير، حتم وبضرورة واعية لابد منها في الشعر الشعبي العراقي وعلى يد الشاعر الكبير مظفر النواب بان يفتح بابا واسعا لقصيدة شعبية عراقية حديثة، بابا كان مغلقا امام مضامين احتكرتها قصيدة اللغة العربية ذات المضامين المتجددة والمتعددة التنويعات شكلا ومضمونا وارى باليسار العدل والمساواة ورفع الظلم وفي الحب التسامي والاخلاص والوفاء واظن ان لاتناقض بين اليسار والحب وهكذا كنت يساريا محبا للعدل والمساواة وعاشقا لوطني واهلي وطبيعتي ..
• يقول النقاد ان ( قصيدة الرواد اوجدت ايضا لغة شعرية جديدة تذوب بها تنوعات اللهجة العراقية ما بين الريف والحضر والشمال والجنوب ) فماذا تقول انت وهل تعد نفسك من الرواد .؟
• في بداية السبعينيات ظهر جيل رائد في التجديد تمثل بطارق ياسين، عزيز السماوي، علي الشباني، ابو سرحان، كاظم الركابي، عريان السيد خلف، زهير الدجيلي .كاظم اسماعيل الكاطع .ناظم السماوي .كاظم الرويعي طبعا يقودهم نحو التجديد ويحمل لوائهم المبدع مظفر النواب واثروا الساحة بنتاج شعري استحدثوا فيه قواعد واساليب واعراف لغوية جديدة مع بقائها ملمة بكل الاشكال الشعرية واكثر تقربا من اجواء القصيدة الفصحى وفرضت التجربة نفسها من خلال تقبل الناس لها واحتضانها واخلاص الرواد وحبهم للتجديد وهكذا كانت فترة السبعينيات من اخصب الفترات وارقاها بالنسبة للشعر الشعبي العراقي .
• كان هناك الكثير من كتاب الاغنية في السبعينيات من فيهم حمل لواء التجديد ومنح للاغنية النكهة السبعينية ؟
• كل الشعراء او اغلبهم كانت لهم قصائد مغناة لكن بالحقيقة لم يكن اكثر من ثلاثة تركوا بصمتهم بوضوح على الاغنية السبعينية واعتبرهم ابائها الشرعيين وهم زامل سعيد فتاح وناظم السماوي وكاظم الرويعي مع احترامي وخالص تقديري لاصدقائي جودت التميمي وكاظم الركابي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف واخرين لاتحضرني اسمائهم .
• المطربون الذين غنوا قصائد الرويعي هل كان الشاعر هو الذي يختارهم اوهم من يختارون قصائده .؟.
• هناك مقولة ولو ماتحمل رومانسية ( الانتاج الجيد يفرض نفسه ) وعلى هذا الاساس انا الذي اسألك : لوكنت انت شاعرا وطلب منك حسين نعمه صاحب الصوت الرخيم اغنية هل ترفض او تطير فرحا وكذلك الامر مع بقية المطربين الرائعين مثل ياس خضر وفؤاد سالم وفاضل عواد وحميد منصور وسعدي الحلي وغيرهم وللامانة فقد كان الكثير من اسباب نجاح الاغاني التي كتبتها تعود لحلاوة صوت المطرب وثقافته وحبه للقصيدة .
• قال احد الذين رأوك في الاردن واصفا الحال مايلي : (كنتُ جالساً في مقهى السنترال وسط عمّان، أتفرس في وجوه العراقيين الفارّين للتو من بغداد، وكانوا، في الغالب، من الكتاب والشعراء والمثقفين، عندما لمحت شخصاً نحيفاً حزيناً كان جالساً في طرف من المقهى يقرأ في قصاصات صغيرة متناثرة أمامه على الطاولة.
قال لي صديق يجلس بجانبي : ألا تتذكر هذا ا قال: هذا صاحب أوبريت ياعشكَنا. فصرخت
كاظم الرويعي .. وقد كنا نعلم انك ذهبت للاستشفاء ولكن صوتك اطل علينا من احدى اذاعات المعارضة فكيف تفسر ذلك .؟ .
* لم أجد الغربة أرحم من الوطن فبكيت وحاولت اقناع نفسي بالقول: لا تبك يا كاظم فأنت الآن خارج الجحيم وعندما مسحت دموعي بمنديل عليه بعضا من غبار وطني الجريح همس في داخلي صوت مرعب : لقد خرجت من الجحيم.. نعم.. لكنني وقعت في الزمهرير! وتسائلت من جديد من يفي الشاعر حقه، بعد أن تناهبت الأيام والأقدار والمظالم زهرة جسده ونثرت روحه في تلافيف الاحزان ؟ ومن يعيد له زهوه بعد أن أطبق على عمره، جحيم الوطن وزمهرير الغربة؟
ومن يجسد للشاعرأحلامه الهاربة كغزلان مذعورة؟ وأي شيء يدخل على قلبه المسرة الضائعة؟
ومن له القدرة على اعادة زمن الوردية في عصرها السبعيني الذهبي .؟ ولم تكن هناك غير نافذة محدودة تمثلت باذاعة عراقية مهاجرة نفثت خلالها شيئا من الامي وهمومي وتواصلت مع الناس الذين احبهم عبر اثيرها ولكن وضع الجسد المتداعي وقف عائقا وكان الرحيل الابدي دون ان اكحل عيوني بشبر من تراب وطني او ارى حلم سقوط الديكتاتورية يتحقق ذلك الحلم الذي طال انتظاري له ورحلت من دون ان اراه واقعا .
• لم تنجب اولادا فهل كان لهذا الوضع اثرا في حياتك .؟
• تمنيت ان يكون لي ولدا يحمل اسمي ولكن ارادة الله وفي ايام العز كنت ارى في قصائدي اولادا ولكن حاجتي للولد ظهرت جلية ايام الضعف والمرض والمحنة والغربة وعلى كل حال الحمد لله فأن حرمت من الولد الي يحمل اسمي تركت الكثير من القصائد الجميلة بناتا واولادا يذكرني الناس من خلالهم .








