ثقافة شعبية

قراءة في مجموعة ( غنائيات وردة جمر ) للشاعر ريسان الخزعلي

بجمالية مُختبِرٍ يعرف ارتياد نواحي غير منتظرة ، مليئة بجيشان الذهن ، مطلقاً حنجرته على طريقتها الاولى في قول حكاية الكلام ..بالكلام الاولي الملفوظ من جنوبه هذه المرة ايضاً الى العالم والعالمية .. المحكي  قبل الدرس ومدارسه وقبل الوصول الى القاعدة بحرمة الغناء .. قبل ان يُصرف او يتصرف به .. قبل ان ينسى غنائياته قبل ان يتمدن، المُدرب قبل وبعد ان وسمنا بميسمه المناطقي كان لنا غناءً جامعاً قبل ان نأسف عليه … والآن صرنا نأسف على حناجرنا وهي تعيده دون انقطاعٍ من الشرح . كان الغناء والعزف ( سومرياً ، بابلياً ، أشورياً … ولكنه ظل عراقياً ) .

في البدء كان الغناء كلمة أغلبها ( آآآه و آآآآآآف ) .. من هذه سيكون ايضاً مجموعة شعر و ( غنائيات وردة جمر ) الصادرة للشاعر ريسان الخزعلي عن دار ميزو بوتاميا .. بموجه قرائي هو ( شعر شعبي عراقي)  ولكنني أرى ان من التسرع والبساطةِ تصنيف الشعر في تجربة الشاعر ريسان الخزعلي الى: شعر // شعر شعبي ، إذ ليس في هذه التجربة الا شعراً فقط .ففي كلا النوعين هناك شاعر واحد يكتبهما . 

وان ما يحسب له في  كتابة الشعر باللهجة الجنوبية العراقية هو ادخاله أساليب وبنى التحديث الشعري الذي بلغته قصيدة النثر عبر كتابها العرب الكبار والعالميين الى مناطق ليست سهلة المدخل عبر وعيها بالتمزق العميق للانسان الحديث مثمرة عن تفجر بالصور المفارقة الصعبة التلقي رغم تشبثه بالوزن الشعري ( الشعبي ) هنا. فهذه المناطق نشهدها في شعر ريسان عموماً  و(شعره الشعبي – بشكل متفرد ومؤسس ) تأخذ بعداً يميزه بين شعراء جيله فهو مغامرة هذا النوع الشعري . فلو قمنا بنقل النص المكتوب باللهجة العراقية الجنوبية في هذه المجموعة الى اللغة الفصحى فسنرى انها تتحول الى قصائد نثر ، تحمل كل مميزاتها من توتر وتوهج وإيجاز ، ولنضرب مثلاً دون تعيين على هذا القول :

بمقطع من قصيدة (  العطر ) كتبت باللهجة الشعبية العراقية وهي من قصائد المجموعة : 

نهر بيه تغركـَ الرغبات .

واندار ..

العمر ..

شبكَه ..

ضوه ..

إعله الحايط التعبان بالصفنه مثل وجهي .

أنتهى المقطع وسأحاول بسهولة من دون إضافة او تحوير كتابته مرة أخرى باللغة العربية الفصحى لنرى مدى صحة ما ذهبنا اليه :

نهرٌ بهِ تغرقُ الرغباتُ .

ويُدَارُ ..

العمرُ ..

حضناً ..

ضوءهُ ..

على الحائط تعبانٌ بصفنتهِ مثل وجهي .

نلحظ أن النص بقي كما هو محافظاً على دلالته وإيقاعه ، ليس هذا فقط وإنما حتى على كلماته  تقريباً .. كما ان هذا التوزيع الجمالي الشكلي للنص .. يستفيد كثيراً من أشكالا وتجارب في قصيدة النثر . ولكنني رغم ذلك أؤكد ان هذه المحاولة رغم مجازفتها تظل تؤكد ان الاتجاهين يختلفان في اللفظ /التعبير ويتفقان على جماليته إذ للقصيدة الاصل جماليتها المتفردة وجاذبيتها الخاصة … وأن قصد هذه المحاولة  هو نبذ ” التعالي غير المبرر فنياً وجمالياً للنقد العراقي في بعده عن قراءة الشعر الشعبي ” ووضعه جانباً  كما يذهب الشاعر نفسه في كتاب نقدي له عن الشاعر ابو سرحان . 

 فالشعر المكتوب بالطريقتين تتناغم فيه وبامتياز متشابك الغنائية والتقنية الاسلوبية والدلالية للنص بأي طريقة كتبه بها فضلاً عن أي طريقة ( وزنهُ ) غناه بها ، فقد صدرت له قبل عامين تقريباً مجموعة شعرية باللغة الفصحى حملت عنوان ( طريقة في الغناء ) ، كما له مجموعة سابقة عليها حملت عنوان ( العلامات كنت أسميها الغناء) … نلاحظ اصرار الشاعر على الغناء منذ البدء . هو القائل ” دعنا نغني كي نعرف الشعر ” .. فهذه الحنجرة الرخيمة التي يشنف بها اسماعنا نحن جلاسه الدائمون لا تهدأ أن كانت تتشاجر او تغني .. 

فبواسطة القابلية الصوتية السلسلة للمفردة المحكية عموماً ، المبتسمة ، الطريفة ، الطليقة ، المنسقة ، الجريئة ، المختصرة ، الشاردة ، المحببة ، المجهولة ، المقيدة ،الشائعة ، المواربة ، المتوارية ، المنكسرة ، المتصالبة ، المغناة … يبدأ الحذف والاضافةِ … ليتحقق نص هذه المجموعة الشعرية وفق تجاذب داخلي لايخشى التجريد ذي القابلية الشعرية في غنائية تبلغ نقاوة صافية ، كما لا يخشى التكرار الخلاق للمضامين ففيها قابلية على التعبير والعرض لمسارات التجربة ونسقها الانشائي ، الممكن التقاطه بارتخاء خادع احياناً وفي أخرى يكون الالتقاط  متشنجاً لشدة توهج الصور التي تغوي بالمضي معها دون انقطاع متبادلين معها الكلام دون تتمة ، وهي تُظهر افكارنا وعواطفنا بإمضائها . ثم الى المكان الاولي الى الجنوب ومناظره معالمه ( نهر الهدام ..الهور  ..الخرائب .. مسعود العمارتلي … الكصب .. المشحوف .. المَثل..  الخ ) . 

***

عُرفت المجموعة ايضاً بقدرة قصائدها على الاحتفاء بشخوص شعرية / فنية واستحضار الاشياء البعيدة والقريبة ( اليومي / المعاش ) التي تغري المتلقي حد الاحتفال بمهارات لغته العامية التي تغني كل شيء ، وبقدرة شاعر يعتني بكتابته ولا يخفي ثقافته ولا ميوله الغنائية ولا ذكريات قراءاته وتجربته ومراجعتها .. فقد تستقر هذه الذكريات لتعوده … لتعود للتفجر بوضوح . 

.. يا نهري ..

ركض عمري إعله جرفك ..،

وانتَ وسط الروح تركض ما تنيت أحد ..

في حالة من التأهب والنداء المليء بالحنين الى الماضي الذي لن يأتي غداً من الطفولة التي مرت بعيداً ( يا نهري إعله مايك كل زغر عفته ..، ) الاسف من النهر والأسف عليه والأسف لأجلهِ ، أنه يمارس لعباً ماهراً بمفردتي ( النهر / الزمن ) لاستعادة الذاكرة بصور لا تحصى تجعل من الاصل موضع شك وحنين وتغني.

 ***

وفي (غنائية لو كمرة.. لو فضة..،) (المهداة الى الشاعر الراحل علي الشباني ) يعود الى علاقة ( النهر // الحلم // الحزب // المناشير فوق الماي ) يقول :

حلمك يوسع الدنية ..

وأظن الدنية ما توسع حلم واحد ..

حلمك / مطبعة /..،

إو طولك نهر .. يجري ورق ويخط مناشير 

مو ع الكاع .. فوك الماي ..

أن تمثيل الحلم بالمطبعة لهو الدرس الاولي لكل شعرية مضادة / متحفزة ضد الصمت ضد السكوت ضد الخضوع كونها لن تتوقف عن الكلام  حتى لو تذكرت انها لن تصل لما تحلمُه،  فهذه طبيعة الشعر أي المداومة على الطبع والنشر لمشاهدات  الواقع والواقعي إما ( الحلم)  فهو الاقرب الى انكشافه كـ ( محاولة ) تضاد مع كل الاكاذيب غير المكتشفة بعد عن غايتنا في الوجود أو البحث عن المعنى خارج النص// الحلم ( المكتوب / المنشور ) … وكما ان الشاعر نهر/ يخط المناشير ( القصائد / الماء ) … فقد وصل الى نهاية يطمح فيها ان يبدد شيئاً من الغموض حول مهمة الشاعر .. بالسؤال عن .. الدور.. المتجسد ( حلمك / مطبعة  ) و ( الشاعر/ الحلم  = النهر ) .. لئلا يستطاع توجيه اللوم اليه لأنه ترك شكاً .. حول الجدوى .. من كل ما كتب وراح يجري فوق الماء ، متعثراً بنا يقرب خوفنا من القادم الرجراج المتسارع فاقد الزرقة ..ومن جفاف الحلم عند جفاف ( الحبر = الماء ) .

نزهه بالخاطر : 

شجرة ..

إوع الفرات إتمازح الريح 

ﭽرﭽبهه الرمش .. 

خافن بعد بالنوم ما مش طيف .. 

ان عبارة ( ﭽرﭽبهه الرمش) تحث على التشبث بالمرئي منعاً له من الزوال هو الزائل كالطيف. لذا فالحياة التي تحاول القصيدة التغني بكل أطرها تشبثاً بأشجار الواقع( المرئي ) هي المعادل لأشجار الحلم والخوف كل الخوف من اغماضة الجفن.. كي لا نخسر احد الاثنين او كلاهما ( الشجرة التي نراها خير ام الشجرة التي نحلم بها)..فهكذا يكون تشبثنا مقلقاً ( مستحيلاً وممكناً )  …    

***

كما يمارس في قصيدة (خراب .. خراب ) التغني بالجمر والكتابة به .. 

إنت تكتب بالجمر دفتر أيامك ..،

والثلج يدبي بصابيعك غفل .

إنت ناسي شكثر فوك الماي زتينه أصابع مو شمع 

هذا حزن العمر .. ﭽوياته ضون

ان هذا المقطع من القصيدة يتناغم دلالياً مع عنوان المجموعة ( غنائيات / وردة جمر ) حيث يبرز انزياح دلالة ..الكتابة بالجمر وليس بالفحم .. بمواربة لجمل تتوالد وتتوازى وتتناقض تمنح امتداداً لنسيج التجربة والمعاناة لأن حياة كلها ( ﭽوي ) لا تكتب الا بهذا التوهج .. وتستحيل الاصابع شمعاً على الماء .. بذكرى العمر . كمن يلقي وردة على شاهدة ( عمره ) .. وفق احساس عميق يتذوق السلام المضيء .. المضيء أخيراً .

*** 

كما تبلغ قصائد التغني بالحب والحبيبة حداً وغالباً بلا حد  ،إنما دون ذكر اسمها المؤنث فهذه العادة غادرها الشعر هنا منذ صارت الحبيبة هي الكل بالكل تذكر وتؤنث حسب ما يتطلبه المجاز … فلا أسمها يعني شيئاً أضافياً ولا توريته تقلل من القصد.. الا ان هذه التورية تعدد حالات الحب فليس هناك قصة واحدة للحب ، ربما ولا حتى حبيبة واحدة تشاركك القصة أو تبادلك الحب والتغني .. ولكنها تظل هي المحبوبة ولها كل الاسماء او بلا اسماء .. كما في قصيدة : ( من هاي أحبك ..! )

.. عجب باسمك ..

ولا نخله إتسمه ..،

إو لا نهر كال آنه إلك ..!

عجب كل المري تتلون إبحسنك ولا مثلك ..!

عجب مفلول بالدنيه .. إو صعب شدك ..!

….

شكثر مفلول بالوحشه ..

إو صفنتي إمسودنه إتلمك ..!

والعجب أيضاً ان يفارق الشعر موضوع الحب والأعجب ان لا يكون كلام الشعر حقيقياً ( قلت حقيقياً ولم أقل صادقاً فللمفهومين دلالة مختلفة) حتى لو من طرف الشاعر الذي سمع ذات مرة ( بأن أعظم الشعر أكذبه ) ، فهذا القول قد يصح في اغراض الشعر التي دأب عليها شعرنا العربي في عصور مضت لتحديده وفق أغراض ( المدح ، الذم ، الرثاء ، الهجاء ، الغزل … وغيرها ) . لكن ما  يحاوله الشعر هنا هو اكتشاف قدرة وسيطرة المحب على غنائية تكرس الانا التي تتقبل وتتلقى تأثيرات متنوعة ومتتابعة للمحسوس كـــ (مادة ) ترى بشكل أفضل .. وترينا كيف تبدأ بالاكتشاف الذي يقوم به الشاعر عبر صورٍ متداخلة تنطوي فضلاً عن الصنيع الادبي على حياة داخلية تتأكد .  

***

وردة إبنار .. غنائية رياض أحمد : قصيدة تتغنى بصوت لن يتكرر وبمغن فقدناه وفقدته الساحة الفنية العراقية في ذروة عطائه الذي ما نزال وسنظل نغني معه ونطرب ونرقص على انغامه ضد الاشياء العادمة للحياة  دائماً .. 

إمبلل من فرات الصوت كل ثوب ..

خيعونك نهر .. وامراية إنجوم. 

مِلح شط العرب ..، والراس مايين ..

مخلوطة الدموع إبحجة إغيوم .

ونظل بالقصيدة ذاتها لنقرأ : 

وكيحه الدنيه من تلبس أظافر سود ..

تجرح لونه الفضَي ..

إو تشكــَ البالكَلب مرسوم .

ما ﭽنهه ظلام إبغير / صُبّي / إو نكرة إدفوف 

ولا حوبة كَلب بـ / محمداوي / أرباع مجسوم . 

جوري الموت يشتم .. وانتَ بستان

أن الأسى على فقداننا وتذكرنا الدائم للفنان رياض أحمد دائماً في البيت أو كل ما مررنا بشارعٍ او مقهى او نادٍ كنت سأقول او سيارة أجرة الا ان الوضع تغير كثيراً فما يسمعه الناس ( اغلبهم ) الآن في سيارات الاجرة ليس الغناء ابداً .  

فهذا الفنان يشكل ذاكرتنا المفرحة بأغانيه ، كما ان النص يؤكد ذلك عبر تذكره … وذكر مقامه ومقاماته ، فالموت الذي اختطفه لم يختطف صوته وحضوره بيننا … ومن هنا تأتي دلالة القصيدة .

***

وفي قصيدة غيلان الجنوبي يتعمق احساس الشاعر بعلاقته بالشعر ورفقة الشاعر والصديق ويتعدى ذلك ليطغى صوت الآنا وحضورها لتصف وتحتفي وتحب ، لتذكر وتتذكر وتدقق الرؤية بالرؤيا ، فيقول ” ولأن غيلان لا يحمل في رأسه ويديه غير الشعر” : 

.. يا باب القصايد ..

يا حلم .. يا ريح 

يا موعد صلاة .. روحك تسابيح .

خطوات الكلب كبل الملاكه إتصيح

/ غيلان الجنوبي / إشراع يا نسمات ..،

حضن أبيض عله الكترين خدّه إيطيح.

أكتفي بهذا القدر من الاستعراض لمختارات ونماذج من المجموعة التي تشكل تطوراً  مهماً لا يمكن اغفاله في مجمل تجربة الشاعر ريسان الخزعلي . 

أقول بأنني حاولت وباختصار ان اقدم انطباعات (إشارات نقدية وذوقية ) عبر شواهد يسيرة من مجموعة ( غنائيات وردة جمر ) ، لأسلط عليها الضوء الذي تستحقه دون مبالغة او مجانية ، داعياً  نقاد الشعر العراقي ان يقبلوا على قراءة الشعر الشعبي عموماً ، وعدم وضعه في تضاد مع الشعر الفصيح ، ومحاولة البحث في جمالية هذا الشعر ودراسته وفق نظرية الشعرية، فالشعر في هذه المجموعة على وجه التحديد يرفض التسليم للجمهور، الجمهور الذي تعجبه من الشعر الخطابة ، وترداد المواقف المقالية واستعادتها قلياً / سلقاً، كما يطيب لنا نحن وغيرنا أن نوصف ( الشعر الرديء ) المكتوب (للمناسبة على عجل ). مع الاسف أن هذا الجمهور هو الأوسع الآن خصوصاً جمهور الشعر الشعبي العراقي. بعد ان صار النشر والطبع وجلسات الاحتفاء والإلقاء الشعري عمومياً / صداقياً فكل هذا مباح دون رقابة فنية أو حتى استشارة فنية .. وأختم بالقول أن ما يعانيه الشعر الشعبي من طارئين عديمي الموهبة تعانيه الانواع الادبية الآخرى كلها .

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان