احمد الشيخ ماجد
لا ادري ما سر هذا الخوف الذي يراودني عندما أفكر بالكتابة عن عريان السيد خلف، احساس يجعلك ترى نفسك صغيراً امام هذه النخلة الجنوبية الشامخة. اذ كيف يسوغ لأحد أن يسبر اغوار هذا الشاعر الفذ، الذي تقشْعر الأبدان عند سماع قصائده الشعبية المتدفقة، والتي تمتاز بقوة المعنى، وعمق الدلالة، ودقة المفردات التي لا يقدر عليها إلّا عريان السيد خلف!. ولد شاعرنا في اربعينيات القرن العشرين، في قلعة سكر، وعلى ضفاف نهر “الغراف” ونشر قصائده في بداية الستينيات، وله مواقف معارضة من نظام البعث الصدامي، ويتَّضح هذا في قصيدة ” القيامة ” والتي نقل فيها صورة حية عن مدينة كربلاء، إبان احداث الجنوب العام 1991ونستدل من خلال قصيدة القيامة على فظاعة البعث وقسوته، ففيها لوحات شعرية تجلب المعاناة إلى المتلقّي، وتجعله يعيش مع احداثها.
ويعلن الشاعر فيها عن منطقه الرافض لهذه الافعال الإجرامية، ويحاول ان يفصح بما يضج في داخله من ألم، وحرقة على الناس المعذبين في هذا الفعل، فهو يقول : ( الحيطان منخل والدروب حفور، والبيبان صرخة بلا صدى ولاصوت، صفنه كَمبرة بوحشة مسية كبور، ووجوه الصغار الحاضنة الشباج، باكَة ورد ذابل بالحزن معصور! والنضره متاهه وخوف يرضع خوف، من يهتز قفل حسبالهم شاجور، من يهتز قفل حتى الطيور تطير، مرعوبه جنح وبلا وعيهه تدور، ماضل لاملاذ يلوذ بيه الخوف، بس حسره مرارة بحشرجة مصدور!). وكذلك قصيدة شريف الدم التي اهداها إلى سيّد الشهداء الامام الحسين (ع) ويقول فيها: (يا أول رفض لمصافح العفنين، ويا أول نعم للموت من يحتف) . أخذ العديد من الفنانين قصائده، وحولوها إلى اغانٍ، ومنهم امل خضير، ورياض احمد، وقحطان العطار، وفؤاد سالم، وسعدون جابر الخ… يتمتّع عريان السيد خلف بشعبية كبيرة، جعلت بعض الناس تنظر إليه كرمز لحمل القيّم، والمبادئ السامية التي ينشدها الناس في الكبار من امثاله. ويعتبر ابا خلدون من الاسماء المهمة في الشعر الشعبي العراقي، والذين يشكّلون جيلا عظيماً اخرج شعراء كبار من امثال: (مظفر النواب، وكاظم الكَاطع، وشاكر السماوي الخ..). اصدر الشاعر ستة مجاميع شعرية منها: (الكَمر والديرة) و (كَبل ليلة) و (اوراق مواسم) و (شفاعات الوجد) مع مظفر النواب، وكاظم الكَاطع و (صياد الهموم) و (تل الورد). كل اصداراته عبرت بوضوح عن مشاعره واحاسيسه، وانفعالاته الصادقة التي تتغذى من بيئته، ومن المشهد اليومي المفعم بالاحزان، والآلام التي نلمسها بجلاء في قصائده. وتحتوي دواوين الشاعر على حس وطني عالٍ، آتٍ من حب لايضاهى أبداً. وما اريد ان اتكلم عنه، هو قصائده الوطنية التي اغفلها الكثير، ولم ينتبهوا لها، ولعل السبب في هذا محتواها الذي يحمل منطق الرفض، والتغني بالثورة كما في قصيدته عن الشهيد عبد الكريم قاسم “رحمه الله” . أكثر الشعراء بعد حقبة السبعينيات، كانوا يتكلمون عن قائد الضرورة، وحاولوا من خلال قصائدهم ان يعبئوا عموم الناس، ليغدو المجتمع “متعسكراً” خصوصاً في فترة الثمانينيات، فكان اغلب الشعراء جاثمين في اصداف الذل، وقلّما صوروا انين الشعب العراقي وهمومه. لكن شاعرنا ارتقى من هذا المستنقع القذر الذي يحصل عليه البعض على القاب وقتيّة تتبدد ما ان يزول الظلم والظالمين… اختلاط الشاعر عريان السيد خلف بالطبقات الشعبيّة المتفاوتة جعله يشعر ببؤس، وشقاء البسطاء، ويتكلم عنهم بروح عراقية محترقة لا ان يمجّد الظالم، وافعاله المشينة التي يندى لها الجبين. فكان ابا خلدون يشعر شعوراً عميقاً بآلام الوطن، ويتمنى ان ينهض من كبوته، وتزول غمته، فقد تحوَّل بقلبه إلى وطنه، وشاركه في محنته، وتجسّمت خوالجه في فؤاده، ويتَّضح هذا في قصيدته: (قلبي على وطني) فهو يقول فيها : ( إنزف صبر ياوطن..بيّه الك ميّة جرح، كلما يهيد الألم بجروحي أذر الملح! أفديك ياوطني لومية مرّة انذبح، واشرب نخب هيبتك من المسا للصبح، مثلك محب ما إلي ومثلك جرح ما يصح، يارمح بضمايري لا خطه ولا صابني). في هذه الابيات تبدو مشاعر عريان الوطنية المفعمة بحب العراق واهله، ويثبت ذلك من خلال روحه القوية المضطرمة التي تجعله “يذر الملح في جروحه”. ورغم الموت الذي يصيبه فيه، تجده يترنم بوطنه بكلمات تثير في حنايا النفوس ماتثيره القيثارة في يد الفنان البارع. روحه الوطنية اليقظة التي تحس بما يدور في هذا الوطن من ظلم، ومشاكل اجتماعية جعلت من نظرته للوطن، تشكّل صورة حقيقية تعبر عن مشاعر الوطنيين اللاهبة، وتفصح بالانابة عما يريدون البوح به : (أهواك ياوطني لو جنّتك ناري، وانزفلك الدم شعر واهديلك اشعاري، كل يوم نكـَعد سوه واحجيلك اسراري، تفكَدني من ابتعد وتزورني ابداري، وابجيلك ابلا دمع واشرحلك الجاري). في هذه الابيات يرى عريان ان كل مايسكبه على الورق هو لأجل الوطن، فهو صديقه القريب الذي يبوح له باسراره، ومايختلج بقلبه، وانه يفتقده لأن “الوطن” (وكما يرى) حنين على ابناءه، يسأل عنهم في غيابهم، ويزورهم ان طال فراقهم!. جلٌ ماكتبه “عريان” حفظه الناس وتناقلوه فيما بينهم، ذلك انه جاء بلغة جميلة، وصعبة في نفس الوقت، حيث يستخدم الفاظاً تجعل الناس يشدهون حينما تمر عليهم مفرداته. انها لغة تستخدم في جنوب العراق، وغالباً في الارياف، وهي شراب موسيقي جميل، فيها من الطعم مايغري، وفيها رنين يبدع فيه، ويفتن، والذي يجعل الناس يقبلون عليها يريدون ان ينهلوا من “الحسجة” التي تجود بها قريحة ابا خلدون : ( على العاقل بعد ما يخطف شراع، ولا يخطي الطريده الليث لو جاع، يا شعبي شكثر ضحيت وانطيت، وخبزتك تنعجن بالهم والاوجاع، كَاعك تربه الله وخضرتك نور، ونهرانك ولف ما عرفن وداع، يكَطعوني عليك وصل وابوس الكاع، وكَالولي: تبيع؟ وكَلت: ما ينباع!). من هذه الروح الجنوبية الكبيرة تتدفق الوطنية التي تحمل هموم الكادحين، وحلم الصادقين بوطن حر خالٍ من الفاسدين، الذين لاضير لديهم ان باعوا الوطن لإرضاء نزواتهم، واهوائهم، حتى لو كلف ذلك الدماء والحروب. فالوطن في نظر “عريان” ليس المعارك والحروب. إن الوطن يعني الحياة، والبقاء، والحب، والسلام. ولأجل ذلك بقي “عريان” محافظاً على وطنه في نفسه، وانه على استعداد ان يضحي بالغالي والنفيس، في سبيل ان لايبيعه . انه عشق الوطن بصدق، وكان يجسد صدقه بأروع الكلمات التي تفصح عن سمو روحه الشامخة : (انا نخلة البرحي الرفضت تطيح، وعشتك كَاع ماعشتك تصاوير، وربيت ابدهلتك وأنهارك تفور، دم….دمع وتطول المشاوير، الصكَور بكل عزمها تواكح الريح، وتهج با لعاصفه صفوف العصافير). عاش في العراق شاعراً بهمومه، لم يجلس في برجه العاجي، ويكتب عنه، بل انه “عاشه كَاع” فقد حمل الوطن بداخله، وكان حبه لوطنه نقياً نقاء الثلج، وهاجاً كشمس العراق الحارقة. اراد ان لاتنطفئ جذوة النضال، والثورة فيه ليبقى صوت الحرية صادحاً يعلو ولايعلى عليه، ويبقى فيه الانسان حراً لاتقيده اي قيود ترسمها السلطات الظالمة التي تأتي عن طريق الغصب، فهو يقول معاتباً عبد الكريم قاسم : (كَلنالك تحذّر ناوراك الذيب، تاعيت الضواري.. وأمنّت بيها، يمصدك الاوهام.. ان البخت حفاظ، يا حظ.. يا بخت.. لوجرخ سركَيها، ثورة اتفرغصت.. من وسط حلكَـ الموت، وبدمك خذتها.. اشلون تنطيها!؟)، انه يكتب هذه الابيات المشجية، وهو يشعر في اعماقه ببؤس وطنه، ومايرزح تحت اثقاله من استبداد صدام وحاشيته، ومايفرضه من اغلال وقيود، متذكرا ذلك الزمن الذي اتى بعبد الكريم قاسم كيف كان ناصعاً، تحبه الناس بصدق، وتشعر بمكانته وماقدمه لها، وبهذا يخاطبه عريان السيد خلف : (يا غرة بياض ابكَصة التاريخ، جسدت الرجولة ابكل معانيها، لاكيت المنايا ابهيبة الفرسان، مادورت حفره.. وعفنّت بيها، يا لكَبرك صرح بكَلوب كل الناس، شلك بالكَبور الرِجل تاطيها!) وفعلا ان “قاسم” في قلوب الناس يذكرونه كلما رأوا تقلبات الزمان، ومجيئه برجال ليسوا كفوئين لقيادة هذا البلد، ولايفكرون إلاّ بمصالحهم، واهوائهم الشخصية، وطرح عريان هذه الفكرة بأجمل الصور وابهاها، فهو الشاعر الجريء الذي يجيد الوخز بالكلمات، ويجعل المتلقي يهتز من اعماقه، ويشعر بابياته الوطنية التي لا ريب في صدقها، فهو تكلم عن علاقته ذات يوم، وقال: (الج باسمك لجيج الطير للطير، وانا المصلوب بجفوف البسامير، ياللي بتضحياتك عرفت الناس، المبادىء للبشر مو للخنازير!).








