حامد كعيد الجبوري / الجزء الاول
لم أجد أفضل من هذه العنوانة لموضوعتي التي أثارها أكثر من صديق تساءلوا لماذا ما يزال المثقفون – شعراء وكتاب – لا يجسدوا بنتاجاتهم الأدبية التي يفترض أن تشيع البهجة والسرور لدى المتلقي ؟ ، ولربما أشاطرهم نفس الرأي وأضم صوتي لما يقولون ، ولربما أتقاطع معهم وبنفس درجة التأييد التي آمنت بها عبر طروحاتهم ، وهذا متأتي من حالة الصراع النفسي الداخلي للإنسان العراقي حصراً ، والسؤال إياه مكرر كثيراً ، وحينما سؤل الشاعر الراحل (جبار الغزي) هذا السؤال نفسه أجابهم بهذه الكلمات التي أخذها منه الملحن (محسن فرحان) وأسندها بدءا للفنان (قحطان العطار ) ومن ثم للفنان (حسين نعمة) ليطلقها لحنا ما تزال الذائقة تردده وباستمرار
أيكولون غني أبفرح
وآنه الهموم أغناي
أبهيمه أزرعوني ومشو
وعزوا عليّ الماي
نوبه أنطفي ونوبه أشب
تايه أبنص الدرب
تايه وخذني الهوه
لا رايح ولا جاي
أيكولون غني أبفرح
******
دولاب فرني الوكت
وخميت الولايات
والغربه صاروا هلي
وخلاني الشمات
مابين شوك وصبر
ضاعن أسنين العمر
أيكولون غني أبفرح
*************
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، لماذا هذا الحزن المتجذر الذي ماانفكَ ملازمٌ للعراقيين إلا ما ندر ، أللهواء الملوث بالحقد والضغينة والاستئثار بكل شيء له علاقة بذلك ؟، وهل أن الماء الذي نشربه وتستقيه جداولنا يحال لحزن وألم دائمين ؟، وهل أن التربة العراقية تنتج الهموم لنحصدها كما الحنطة والشعير ؟،ويروي التاريخ أن الشاعر (الفرزدق) ذهب حاجاً بيت الله الحرام ، وهناك التقى الأمام (الصادق ع ) ، فقال له أنشدني يا ( فرزدق ) ما قلته بجدي (الحسين ع) ، فبدأ (الفرزدق) يقرأ أشعاره للأمام ، فأستوقفه الأمام قائلاً لا يا ( فرزدق ) بل أتلوها عليّ كما يتلوها العراقيون وبطريقتهم ، وكان له ما أراد وجرت عيونه حزناً لجده (الحسين ع) متأثراً بالطريقة التي تليت به القصيدة إياها كما يزعمون ،ومنهم من يقول أن الحادثة إياها جرت مع الأمام زين العابدين (ع) ، وأخر يقول أنها مع الأمام الرضا (ع) والشاعر دعبل الخزاعي ، ولتكن الحادثة مع أي منهم (عليهم السلام )فهذا يؤكد ما أذهب اليه من أن الحزن العراقي متأصل فينا حد النخاع ، وأشيع عنا هكذا في كل البلدان العربية ولم نستمع لأغنية تطربنا إلا إذا كانت حزينة
عاش من شافك يبو حلو العيون
صار مده أمفاركينه وماتجون
لا خبر والبعد طال ألمن أنودي السؤال
كلنه مدري أشلون عشرتنه تهون
ولو أردتُ السؤال قائلاً لو أنكَ استمعت للفنانة اللبنانية الكبيرة (فيروز ) وهي تردد (دخلك ياطير الوروار ) أو (حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي) ترى هل تثير لك هذه الأغنيات هما ووجعا ؟ أم تترك لك حيزاً من الفرح والنشوة وهي على النقيض من الأغاني العراقية ؟ ، علما أن الأغاني العربية أكثر رقة وجمالية بالمفردة المستعملة ، واعطيك مثلاً متواضعاً كلمة (شتريد) ومعناها واضح ولكن ألا تلاحظ معي قسوة وحدة السؤال مقارنة باللهجة الشامية (شو بتريد سيدي ) التي أجدها أكثر رقة من لهجتنا الدارجة، ولا أعرف لماذا أعتقد أن الآلات المستعملة بالغناء العراقي أكثر إيلاماً وحزناً من الآلات الموسيقية الأخرى ، ومثل ذلك (الناي والربابة) اللتان لهما ذلك الإيحاء الخفي لاختراق شغاف القلوب ، ولا أنكر أن البحبوحة المفتعلة التي أرادها النظام السابق حقبة السبعينيات خلقت لنا نصوصاً مميزة دالة على الفرح وأشاعته ( ياطيور الطايره ردي لهلي ياشمسنه الدايره أبفرحة هلي سلميلي ومري بولاياتنه ) أو ( تانيني ألتمسج تانيني يهنا يم طوك الحياوي ) ، أو (يا خوخ يازردالي بذات مالك تالي ، تانيتك ومن حومرت صار الجني العذالي) والأمثلة كثيرة ، ويضاف سبب آخر لما قلناه غير الصراع السياسي الذي شهده العراق ، وتحوله من احتلال بغيض لآخر أبغض ، ومن ظلم الحكام المتعاقبين ظالم يعقب ظالماً آخر (فالوطن العربي الممتد من البحر الى البحر سجان يمسك سجان) كما أطلقها الرمز العراقي الأبي (ظفر النواب ) ، والسبب الذي أعنيه هو الفقر وشفيعي لذلك ما قاله سيد البلغاء (علي ع) (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) لقناعته التامة بما يحدثه الفقر على المجتمع عامة والفقير خاصة ، ولدي أكثر من شاهد لذلك فسأتحدث عن نفسي بداية ، أنا من عائلة أقل من معدمة فكل الأطفال بعمري – حينها – ينتظرون عيد الله الذي سيحل عليهم – رمضان وعيد الحج – إلا أنا فماذا سألبس في هذا العيد ووالدي لا يملك من دنياه إلا كرامته ، لذا كنت ألتحف حزني ولا أغادر موضعي أيام الأعياد ، وليس لنا بيت إلا غرفة واحدة مستأجرة لا يستطيع دفع إيجارها البالغ دينار واحد سنوياً ، لم أتناول فطوراً طيلة طفولتي إلا الخبز والشاي ، وبعد أن أشتد عودي وأصبحت بالثالث ابتدائي اصطحبني جاري رحمه الله (رديف البنه) معه للعمل في البناء لقاء أجر مقداره (260) فلساً فقط أيام العطل الصيفية لأنفقها على عائلتي ولأوفر منها ملابسي وملابس أخوتي المدرسية ، طفل في الثالث ابتدائي لا يستطيع حمل ( طاسة ) البناء فأوكلوا لي مهمة حمل ( الطابوق ) على قدر استطاعتي ،ورغم فقر ابائنا وعدم تمكنهم من إعالة أبنائهم فهم ينجبون التسعة والعشرة من الأبناء متأسين بقول الرسول الأعظم ( ص ) الذي يقول (تناكحوا وتكاثروا لأباهي بكم الأمم) ، ولست على قناعة بأصل هذا الحديث ورواته فبأي أجساد عارية سيباهي (محمد ص) الأمم الأخرى ،وأن صح الحديث فيقع اللوم على الميسورين لأنهم لم يخرجوا من أموالهم الصدقات المفروضة ، ولأني الكبير بين أخوتي فكنت الوحيد الذي لا تصبغ ( دشداشته ) بصبغ النيلي أيام العيد أكثر الأحيان ،لأن والدي أضطر لشراء ( دشداشة ) لي بسب أن ( دشداشتي ) السابقة أصبحت أقل من قياسي ولا أعرف من أين أقترض مالها ، أما ( دشداشتي ) الحالية ستؤول لأخي الأصغر ، والأوسط من أخوتي للأصغر منه وهكذا ، وسبب صبغ (الدشاديش ) بصبغ النيلي لنوهمّ أنفسنا على أنها جديدة ، وبعض العوائل تصبغ ملابسها بالأسود أيام عاشوراء لعدم تمكن تلك العوائل من شراء الملابس السوداء الجديدة ، ولكم أن تتصوروا ما يتركه صبغ النيلي على أجسامنا الغضة الطرية ولقد جسدت ذلك شعراً و أقول
معاميل الحزن فصل علينه أهدوم
ما ماخذ قياس وراسها أبعبه
وذا ثوب الحزن يطلع كصير أطويل
تبادل ويّ أخوك وبالك أتذبه
وأن أضفت للفقر اليتم المبكر وفقدان المعيل وترك والدك لك حملاً ثقيلاً (كوم لحم) كما يقول المثل الشعبي وبخاصة أن كن إناثاً فماذا سيكتب الشاعر عن ذلك ولم أجد لذلك أجمل مما كتبه الشاعر الكبير ( كاظم إسماعيل الكاطع) مصوراً نفسه بحلم تساءل معه (أبو الطيب المتنبي) عن أحواله وأحوال الناس فيقول:
سألني عن جديد الشعر هالأيام
والناس أعله ظيم الصابها أشتكتب
أشتكتب والجديد البي فرح جذاب
والكلك جديد أيفرحك يجذب
أمي من الزغر تنكل حطب للنار
ويفوّر جدرها ومدري شتركب
مصباح اليتم صبتلي بالماعون
ومن ضكت الحزن شفت الحزن طيب
ملحه أهدومنه مالات عشر أسنين
موسمران بس هنه علينه ألوانهن تكلب
مبعد يا قطار الشوك وين أتريد
إخذنه أوياك بلجي أبدوستك وياهم أنجلب
أخذني وياك شاعر كل رصيده أجروح
يفتحلك أحساب أبأي مدينة طب








