شكر حاجم الصالحي
يحاول الشاعر الكبير موفق محمد في العديد من قصائده (الشعبية) وفي قصيدته (مخدتنه عصافير) بالذات ، المنشورة في ملحق ثقافة شعبية بعدده (2860) الصادر في (2/تموز/ 2013) ، أن يعيد للشعر الشعبي هيبته وحضوره في اوساط المهتمين والمعنيين بعد أن طفح الكيل بتناسل عجائبي للأصوات النشاز والنماذج الساذجة التي لا صلة لها بأصالة شعرنا الشعبي وتراثه المجيد سوى هيمنتها على الذائقة المتدنية وانتزاع تصفيق الايادي التي لا تجيد غير التصفيق بمناسبة او بدونها لكلمة معبرة او صورة بائسة دون ادراك جوهر الكلام المسموع وقيمته ، إن اللّافت للإنتباه في (مخدتنه عصافير) لغتها الدالة وصورها المبتكرة وقدرتها على ايقاظ مشاعر التفاعل الحميمي مع ما فيها من انثيالات شاعر متمكن من ادواته ، خبير بامكانات لغته ، عارف بقدراتها ، فهو يتحاشى وحشي الكلام منتصراً لقيم الجمال بمفردات تثير قي المتلقي كل ما هو منسجم مع ذائقته وتجاربه الحقيقية في الحياة :
مخدتنه عصافير
وعلى طولك ورد يضحك نده ونجوم
وضوه يلبط
متلحك تسمعه العين
وأنا ازنيكي خصر غافي فتر ومزاعل
الردفين
أكيسه امنين ؟
هل سمعتم أو رأيتم مثل هذه الصورة التي لا أظن ان شاعراً قبل موفق محمد قالها ، فأي جمال يضخه هذا المبتكر (مخدتنه عصافير تزقزق ) و(متلحك تسمعه العين) والعين ترى كما هي في المؤلف ، ولكن الشاعر كسر التوقع وجعل العين تسمع بدل ان ترى ، وفي ذلك امتداد لما قاله بشار بن برد في رائعته التي منها : (والاذن تعشق قبل العين احيانا) ، ومن هنا تتأتى براعة شاعرنا المعاصر موفق محمد ، مستفيداً من إرث الأولين بما يضيف لنصه مساحة من التأثر والجمال ،(وأنا ازنيكي خصر غافي )و( فتر ومزاعل الردفين) ، وهكذا تتجلى مهارة المبدع بوصف (الزنيك) وهو الرباط او الحبل بـ(خصر غافي ) ،و فتر (وحدة قياس شعبية) و هو على خصام مع الردفين ، ومع ذلك الخصام يتساءل ( أكيسه امنين ؟) .. وأكرر ما قلته في السطور السابقة من ان موفق محمد امتلك ناصية اللغة المدعمة بالخبرة المتراكمة والحساسية العالية والخيال الجامح ، فأنتج لنا هذه القصيدة المتفردة بموضوعها ولغتها وجعلنا نتفاعل معها بصدق ونعيش لحظات توهجه / توهجها بكل محبة واعجاب ، وليست الصور الجميلة التي وردت في المقاطع الأولى لوحدها ما أبدع في صوغها الشاعر ، بل ان جميع مقاطع القصيدة بلغت الذروة في التألق والجمال ، وهذا ما نقرأه معاً في المقطع الآتي :
مخدتنه عصافير
وعلى صدرك مري إينثّن عطر
ويلمن المكتوم
وابدّكلك وانه المالوم
واريد أشبع حِسن متلحك عيوني
ومن أسولف ويه طولك تجدح
عيوني
سنابل تشتعل وترف على الصوبين
آه .. ما أجمل هذه الصورة الأخاذة التي يفتقر لمثلها الكثير من النماذج التي نقرأها ونسمعها هنا وهناك بعد ان تفشت(الامية ) وتدني الاذواق وانحراف وظيفة القصيدة الشعبية الى غير ما تعارفنا عليه وتوارثناه ، تصور ايها القارىء هذا الجمال الباذخ المنبثق عن حسية عالية في ( وعلى صدرك مري اينثّن عطر) ، وهل رأيت مرآة تنث عطراً في الواقع ؟ لكن موفق محمد جعل النهدين مرآة منحها بخياله الواسع قدرة استثنائية واعطاها وظيفة غير وظيفتها المألوفة ، انها براعة شاعر امسك بجمرة الشعر وقذفها بوجوه مستمعيه ، ليؤكد ان الشعر الحقيقي حاضنة للجمال والحياة والمتعة ، رغم ان موفق محمد كأنسان من لحم ودم استعاض عن الفعل بما يتماهى معه نظرياً ، وتلك محنة لا صلة للقصيدة بها ..
وتطر بيّه الوساوس طرّ
وأنه بلا حيل واتمرمر
وألملم بيّه واتوجه على جنوني
وحلو اخبالي عليك اشيب الراس
اذا وسواس يتعب ينخه وسواس
هنا يعترف الشاعر بخذلان (الحيل ) ، و(انه بلا حيل واتمرمر) وتكر الصور وتتابع المرارات بين الجنون والوسواس والانطفاءات لأن (اذا وسواس يتعب ينخه وسواس ) انه قدرك ايها الشاعر الكبير الذي لا يجد غير الوسواس في وحدته وعزلته المكانية ، والتي ارى ان هذه المناخات هي وراء كل ما تبدع من شعر فصيح وشعبي ، أكدت من خلاله قدرة فائقة على ان تظل شاعرنا الممتلىء بكل ما هو اصيل وجميل ومتفرد يضيف لنا من متع الحياة ما نتمنى ، رغم سطوة الظلاميين وسعيهم الخائب لكي تظل حياتنا كما يشتهون صحراء قاحلة ،الاّ من خرافاتهم الصدئة .. شكراً لثقافة شعبية التي اتاحت لنا فرصة قراءة هذا النص المشاكس ، وشكراً لموفق محمد الذي ابدع في (مخدتنه عصافير ) وجعلنا نزقزق مع عصافيره بحرية ومتعة..








