ثقافة شعبية

الرســــام العراقـــي والتـــراث الشعبــــي

طلال سالم الحديثي

  لم يعر كتاب وباحثو التراث الشعبي موقف الرسام العراقي من التراث الشعبي اهتماما، ولم يتبينوا ابعاد ذلك الموقف وملامحه وتفاصيله على الرغم من ان حصيلته الثقافية والفنية كبيرة وغزيرة، فقد عد الرسام العراقي التراث الشعبي معينا دافقا يغذي بنسغه ابداعه الفني الذي ترجمته اعماله الفنية التي توالت في بواكير النصف الاول من القرن العشرين. وتهدف هذه المقالة إلى الاشارة – بحدود الامكان – إلى مايمكن ان يكون ضوءا اوليا يمكن ان تتبعه اضواء منيرة تجلو ظلمة الصمت والاهمال عن موضوع حيوي ومهم سواء للرسام المبدع الذي لم ينل نصيبا من التنويه وكشف الاستار عن زوايا ابداعه او للتراث الشعبي العراقي الذي لم تزل الاكثرية من جوانبه بحاجة إلى إلقاء مزيد من الضوء عليها بالبحث والدراسة.  ويرى بعض الباحثين في تأريخ الحركة الفنية في العراق، وبالتحديد في موضوع الرسم ان الرسام العراقي لم يفقد يوما تعاطفه مع كل ماهو انساني وشعبي في مدينة يحبها وتحبه. وقد تجلت مقدرة الرسامين العراقيين على جعل فنهم مستقى من تربتهم التي تجمع بين تراكم الحضارة المتعاقبة وبين مجالي الحياة اليومية المعاصرة. وقد حفلت لوحات الرسامين العراقيين على اختلاف مدارسهم الفنية بعناصر التراث الشعبي، وصورت حياة الانسان الشعبي من مختلف زواياها سواء في المدينة او القرية. ويمكن ان نلاحظ ذلك في اعمال فنية مبكرة كتلك التي رسمها (عثمان بك) الملقب بعثمان الاعرج في صورة الايبيين في مقتبل الربيع لعودة موتاهم في مقبرة السليمانية الشهيرة، بينما كانت الموضوعات الاثيرة لدى شيخ الفنانين العراقيين المرحوم عبد القادر رسام هي الصورة التي تمثل مغاني دجلة، والمنائر الذهبية لمرقد الكاظمين والاماسي البغدادية الصامتة في ظلال النخيل وعودة الرعاة في الغروب. واذا كان لكل رسام اسلوبه المعين، فإن جل الرسامين يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب، فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد يحدده ادراكهم وملاحظاتهم لحياة بلدهم الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد، انهم لايغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق اشكال تضفي على الفن العراقي طابعا خاصا وشخصية متميزة. ان الرسام العراقي مهما يكن اسلوبه يتوخى اولاً استلهام جو بلاده بخصائصها الطبيعية والاجتماعية، وهو يتوخى ثانيا تصوير حياة الناس في شكل جديد، ولكن عليه ان يذكر انه مهما ابتكر من اشكال جديدة، فإنّ في عمله استمرارا للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه الحضارات، فعليه ان يمد جذوره في تربته وتأريخه وتراثه. ومنطلق الرسامين في هذا كله ينبع من فهمهم للعمل الفني الذي رأوا انه لم يعد كما اراده (الانطباعيون عملا ضوئيا يطفو على سطوح المرئيات، بل اصبح عملا فكريا يستهدف تجارب الانسان المتنوعة التي تقع تحت حصر، وبات على الفنانين ان يسلكوا احد طريقين، فهم اما ان يقصروا همهم على دراسة السطوح، او ان يذهبوا إلى ما تحت القشرة فينفذوا إلى صميم الظاهرات، إلى الانسان ذاته، تجاربه وافكاره وانفعالاته). ويمكن ان نشير اولا إلى الرسام والنحات العراقي جواد سليم باعتباره من اوائل الذين التفتوا إلى التراث الشعبي واستفادوا منه اذ (ادخل بين معروضاته في معرض لجمعية اصدقاء الفن في العام 1942 لوحة عنوانها (رحلة السندباد الثامنة) ومنحوتة يتجاوز طولها المترين بعنوان (موكب ملك اشوري) .  لقد اكثر الشعراء في الآونة الاخيرة من استعمال رمز السندباد ورحلته الثامنة، بحيث بدا لهم انهم اول من اكتشف هذا الرمز العربي (الجديد) غير ان جواد سليم سبقهم اليه في فنه بنحو خمس عشرة سنة، فقد كان من المعجبين بألف ليلة وليلة ولازمته فكرة الرسم حول مواضيعها طوال العشرين سنة الاخيرة من حياته. وقد اخضع الناحية الجسدية للتعبير العربي المشحون بالجو البغدادي والمثقل بالتاريخ والفلكلور كما نرى في صور عديدة اجملها صورة (حكاية عن النساء) و(إن كيدهن عظيم) (1957) التي جعلها اشبه بتحية منه إلى سلفه الروحي ( الواسطي ). وقد تتابعت دفقات عشقه للواسطي، فأدخل الالوان المرحة في اشكاله الهلالية، وحقق عددا من اجمل ماخلف من لوحات يختلط الموضوع العراقي الشعبي بنظريات الرسام عن روح الفن العربي، ويستمد من رسوم المخطوطات القديمة والخط العربي روحا جديدة، ويعود إلى مواضيع الف ليلة وليلة ومواضيع كيد النساء، ومواضيع الفرسان وخيلهم ويرسم سلسلة من الصور تتفاوت حجما وزمنا يسميها البغداديات، والبغداديات كلها تتسم بالخطوط المتعرجة النامية والالوان الصافية، وهي تمثل احيانا رد فعل الفنان لما يرى في محيطه في شئ من السخرية والتألم، وكثير من الحب، والشجرة القتيلة هي إحدى هذه البغداديات التي موضوعاتها موضوعات شعبية استقاها الفنان من عادات مجتمعه وتقاليد عصره، وهي مواضيع تنم عن تجربة شعورية صادقة تمثل الفرد العراقي بقسمات وجهه الصارمة وملابسه واثاثه، ولكنها لم تصلنا بالكون الكبير، ولا بنوع الحياة الساري، بل جذبتنا إلى اللحظات الفردية والاحداث المحدودة الضيقة، واشهر تلك الرسوم (في محفل الخليفة) و (القيلولة) و (الفرقة الموسيقية) و (الشيخ والراقصة) و (ليلة المحيا) و (موسيقى في الشارع) و (بائع الشربت) و (عروسان من بغداد) و (الذبيحة) و (الخياطة) و (فتاة وطير) و (بائع الشتول) و (طفلان يأكلان الرقي) و (حصان وصاحبه) و (عاشق الطيور) و (شاي العصر) و (صندوق الزفاف). والمجموعة الثانية من (البغداديات) تتناول التأليف بين وسائل جامدة عراقية الطابع، اطلق عليها اسم (بغداديات) كالقوري ودلة القهوة، واصص الورد، وصناديق قديمة وكؤوس خزفية ومشربيات وسجاجيد ونقوش وزخرفات وحكم مكتوبة بخطوط ساذجة واشكال هلالية معلقة ورسوم لأوجه فتيان لوزية العيون. والمجموعة الثالثة من (بغداديات) مجموعة معايدات يراقص بها الاطفال إلى جنب امهاتهم ولعبهم، وحيوانات أليفة كالحصان رمز الفروسية والكبش والثور رمزي الضحية في عيد الأضحى وارضية تداخلت بها اشكال هندسية وتشكيلات تجريدية بديعة مع كتابة بخطوط طفولية والوان براقة صارخة. أحب جواد الألوان الشعبية، وكان اول من استعملها في أسلوبه بحيث أصبحت بعدئذ الطابع المميز لأعماله. لقد نفذت عينا جواد إلى ألوان بلاده الرائعة بالرغم من المسحة الترابية التي تطغى عليها، ومن التأريخ العراقي القديم وعمال بغداد الجدد كان قبل ذلك قد انتج رائعته الحجرية (البناء) وكانت بأسلوب النحت الآشوري البارز، ولكن مسحتها عربية. ولعل جواد، هو الفنان الوحيد بين فنانينا الذي يحس، بل يتجاوب مع روح الفن في هذا العصر، فهو يفكر طويلا، قبل ان يرسم او ينحت، ثم يقدم انتاجه الفكري هذا موزعا بين اسلوبه الحديث الذي تشيع فيه عفوية الرسم لدى الاطفال او الفنانين الشعبيين، فهو يقدم لنا الفكرة محمولة على خط او لون لاصنعة فيه ولاتكلف، وهو يستمد افكاره من واقع بلاده العريقة (من الأهلة الشرقية، ومن سيراميك الجوامع البغدادية القديمة من الاقواس والاقبية الاجرية، وهو اذ يمزج كل هذه الصور والمؤثرات، فلا ينسى ان يصوغ منها رسومه المبدعة التي تصور روح شعبه بأمانة ووفاء. ولقد (سعى إلى تبسيط الاشكال تبسيطا تجريديا) يجعل من اليسير تناولها حتى على ابسط رجل في الشارع، كما تتناول اذنه الاغاني الشعبية ذات المقاطع الطرية). ومن الرسامين الذين تتجلى العراقية الصميمة في مواضيعه واجوائه الرسام فائق حسن الذي له من براعة الصنعة مايضيف إلى لوحاته جمالية تغري باعادة التأمل فيها مرة بعد مرة، قد توحي رسومه بوحشة الانسان في فقره، وفي تأكيده على ضرورة الحياة كيفما الحياة تكن، قد توحي بازدحام البشرية في زقاق عتيق حيث تخالط وجوه الاطفال المتماثلة وجوه النسوة المتماثلة، اما في تعبيراته فإن النساء والرجال والاطفال والجمال والخيل تنبثق من آفاق كآفاق الاحلام المضطربة الجارحة ولكن رؤياه في النهاية متصلة الاجزاء ضمن عراقيتها وضمن جماليتها المتميزة. وكانت عودته إلى الريف عودة روحية إلى التربة ، يمجد فيها الرسام حياة العاملين في الأرض المستنبتين عطاءها في جو من فلاحين وفلاحات وخيول ودواب، توحي كلها بقوة وصمود وتفاؤل. وفي لوحة (علابات) يتمثل الرسام فائق حسن الحياة اليومية التي تمارسها طبقة الفلاحين البسيطة اصغر وحدات الشعب المنسية، ولوحتا (نساء) و (فتاتان) تمثلان اصدق تمثيل الملامح البغدادية بأحلى صورها، مثلما عبر في لوحاته:(القرية رقم (1)). و(الرجوع إلى القرية) في هذه اللوحة الاخيرة يبدأ الرجوع إلى القرية عند المساء كما لو كانوا آيبين لتوهم من العالم السعيد الذي يختفي وراء الافق، وتمثل في لوحاته مشكلة الانسان الذي مازال يستظل بالخيمة، واتخذ مادة حياته البدائية قوام فنه واسلوبه كما عالج موضوعات بدوية خالصة ملونة بألوان الارض المشققة الحمراء والابسطة التي اكلها البلى والفخار الذي ادمته السنة اللهيب. وكل مايحيط بأبطاله هؤلاء يشعر بلون الابسطة البدوية، وهذا الشعور يقود المرء إلى تلمس جفاف الحياة ومرارتها بتلك الربوع الصحراوية المقفرة. ونجد عند رسامين آخرين موضوع عشق المدينة لذاتها ولاسيما احياؤها القديمة التي هي في زوال سريع مثل رسوم لورنا سليم التي رسمتها في الستينيات، انها كلها لوحات طويلة ضيقة تصور كل واحدة منها واجهة حي بكامله بما فيه من ابواب ونوافذ وشناشيل وشرفات ومآذن وأكوام تراب وجدران مهدمة وقد غمرتها جميعا اشعة الشمس الصفراء.  ويجعل اسماعيل الشخيلي من الوجوه النسائية بعيونها الكحلاء وعباياتها العراقية قصائد رقيقة تتكرر بتنويع متقارب. وكان وهو في باريس يبحث عن الجو البغدادي الملهم، ويحملنا بحنينه هذا على مشاركته ذات الشعور ذات الانجذاب الوجداني لنور الشرق، فهو اذ يعمد إلى رسم (سوق في بغداد) لايميل إلى دراسة الضوء كقيمة اساسية في لوحة تتقصى دراسة الجو العراقي. وهو اذ يعمد إلى رسم الاشخاص لاينسى ان يضع على اجسادهم الالبسة الشاحبة، وان يوشح رؤوسهم بالكوفيات، ويلون وجوههم بألوان الفخار المحروق.. انه استحضار لروح الوطن وقلبه فقد حاول (ان يكون وثيق الصلة بالبيئة العراقية). والمرأة العراقية في انماط حياتها موضوع محبب لدى الكثيرين ولاسيما الرسامات كسميرة الصراف ولورنا سليم في الخمسينيات وكذلك نزيهة سليم ولنوري الراوي حس للجو، للمكان، للوجوه كما نرى في رسومه منازل قروية عراقية تقوم على الانهر او حول النواعير (انها اقرب إلى قرى الاحلام). ونرى عند حميد العطار زخارف البسط والافرشة الشعبية وما فيها من ألوان (ملتهبة) ينظمها في تشكيلات كبيرة خشنة تأتيها بفيض من الحرارة العاطفية. ورسم عصام السعيد العديد من اللوحات التي فيها عبارات من الأغاني الشعبية وألف ليلة وليلة، وقد رسم رسامون عديدون كنزار سليم ورسول علوان وطالب العلاق وستار لقمان ومحمد علي شاكر وآخرون الاشخاص ومشاهد الحياة الشعبية معتمدين على حسهم المكاني ومايسبغون عليه من حب او شفقة، من فكاهة او قلق.  

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان