ثقافة شعبية

الجــذور العراقيــة القديمــة للفنـــون الشعبيـــة اليـــوم

حسين الهلالي

الجزء الاول

 

لا شك أن القسم الجنوبي من العراق والذي يسمى قديماً (بلاد سومر) زاخر بالحضارة التي أمدّت العالم بمرتكزات حضارية غنية، وأعظم انجاز قدمته هذه الحضارة هو اختراع الكتابة في حدود (3400 ق . م) ولا نريد أن نتوغل بماهية هذه الحضارة فهي لها عناوينها وأبوابها الخاصة ولها مختصوها، ولكن الذي يهمنا من هذا الأمر هو فن الغناء السومري ليكون مرتكزاً لموضوعنا الحالي . ولمعرفة الصلة بين ذلك الغناء وتراثنا الغنائي، ويمكن أن نذهب الى مقال الدكتور فوزي رشيد الموسوم (بالغناء القديم، حيث يقول :- يعتقد بأن النواح والبكاء والضحك أيضا يمثلون بلا أدنى شك أولى المراحل التي ارتكزت عليها الخطوات الاولى في الغناء) وقد تطور هذا الشيء وأصبح صوتاً منظماً شجياً يطرب الآخرين ويسليهم، ويستطرد الدكتور فوزي رشيد في مجال آخر من مقاله (ان النواح والبكاء يذّكران الانسان بالغناء لذا نراه يؤثر بالسامع والمشاهد أكثر من تلك التي تذكره بالحياة فهي اكثر فعالية وتأثيرا في الانسان لذا فأنها كانت وما تزال في كثير من المجتمعات تمثل جوهر الغناء، والغناء نشأ كوسيلة يتوصل بها متعاطوا الغناء الى هدف ما بواسطة التأثير على عواطف الاخرين كما هو الحال مع البكاء والنواح) لقد كشفت لنا الكتابة المسمارية عند اكتشافها اشياء كثيرة ومذهلة أصبحت أساسا لبناء حضارة العالم. ففي الكتابة الصورية وجدت أولى الخطوات المعرفية للأشياء فكلمة نار السومرية تعني اسم مغني وهي بالاصل صورة لرأس ابن آوى، وهذه العلاقة بين اسم المغني وصورة رأس ابن آوى هي علاقة صوتية ولا يمكن أن تكون بدنية، هذا وفضلا على اننا نعلم بأن صوت ابن آوى هو من الاصوات الحزينة الشبيهة بالعويل والمثيرة للخوف، وهذه الحقيقة ذاتها صريحة للالحان السومرية القديمة، حزينة ومقاربة الى النواح والعويل. إن كثيراً من الاصوات التي تنطلق من مغني ريف العراق هي قريبة الى الحقيقة فصوت المغني (عبيد أبو لكش) من مدينة سوق الشيوخ أقرب الى هذا الفهم خصوصاً اذا غنى بالطور الشطراوي الجميل والحزين. نعود الى المغني نراه متخصصا بالاغاني الدنيوية والمغني كال متخصص في انشاد الاغاني الدينية الحزينة وبعدما عرفنا الالحان السومرية في طياتها طابع الحزن والنواح والفرح أحياناً وتأكد على كثرة الاعياد والمناسبات التي تصف الفرح والابتهاج ومنها مناسبات (أعياد رأس السنة) التي أهم شعائرها (الزواج المقدس) وهذا الزواج كان ينعقد بين اله والهة من آلهة الخصب حسب اعتقادهم السائد انذاك.

ويورد الباحث صموئيل كريمر نصاً يمثل أقدم اغنية في العالم وهي تدور حول عروس مبتهجة والملك (شو – سين) أحد ملوك اور 4000 عام قبل الميلاد وهذه مقاطع من الاغنية :

((أيها العريس الحبيب الى قلبي،

جمالك باهر، حلو، كالشهد،

ايها الأسد الحبيب الى قلبي،

جمالك باهر، حلو، كالشهد،

لقد أسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك،

وأنا خائفة مرتعشة،

أيها العريس سيأخذونني اليك الى غرفة النوم،

لقد اسرت قلبي فدعني أقف بحضرتك،

وأنا خائفة مرتعشة،

أيها العريس دعني أدللك،

فإن تدليلي أطعم وأشهى من الشهد،

وفي حجرة النوم، الملأى بالشهد،

دعنا نستمتع بجمالك الفاتن،

ايها الأسد، دعني ادللك،

فان تدليلي اطعم واشهى من الشهد،

ايها العريس قد قضيت وطر لذتك مني،

فابلغ امي وستعطيك الأطايب،

اما أبي فسيغدق عليك الهبات)).

ان هذه الأغاني التي تغنى في هذه المناسبات البهيجة لا تخلو الحانها من مسحة الحزن والنواح وهي تماثل الى حد كبير ألحان المنطقة الجنوبية من الطرق التي ما تزال تتصف بمسحة الحزن حتى ولو كانت تلك الأغاني عاطفية أو أنها مغناة بمناسبة مفرحة، وقد حضرت يوماً حفلة عرس لأسمع المغني الشعبي المشهور المرحوم جبار مرجان وسمعته يردد هذه الأبيات من الأبوذية :

حادي وين حادي البين حده (حادي الأبل الذي يحد بها)

اخذ مني اليجزي الخصم حده (الأرض الفاصلة)

يشامت زين سيفك على حده (يحد بالسيف)

طريح او صح لك معراض بيه (وجدتني لا حول ولا قوة لي)

انا من جور دهري ابد ما ون (الأنين)

اون للسار ضعنه بليل ماون (لم ينتظر)

وين اهلج غدوا يا دار ماون (الى أين)

نادي ولا جواب يرد عليه

نلاحظ في هذين البيتين الحزن واضح والألم من بين أسطرهما اضف الى ذلك أداء المغني الأصيل صاحب الطور الجميل والحزين كل هذا هو مطلوب من الجمهور الذي يغني له .

ويقول الدكتور فوزي رشيد (ان الألحان في المنطقة الجنوبية من الطرق تحمل في طياتها طبيعة الألحان السومرية لأن المنطقة المذكورة تمثل الموطن الأصلي للسومريين وأوجه التشابه في المقاطع الشعرية والالحان ) .

المقطع السومري :

سيدة السماء العظيمة،

النور الساطع الذي يملأ السماء

اما المقاطع في الشعر المغنى في الجنوب :

اريد تحتها

عيني ومي عيني  يا عنيد ييابه

المقدسة الأتية من السماء

تسوه هلي وكل الكرابة

اريد تحتها

يا عنيد ييابه

اريد تحتها

وهناك فنانون شعبيون أقل شأناً من نار وكالا، هؤلاء المغنون يسمعون زاميرو عند السومريون وايشتاكو بالأكدية :

ان هؤلاء المغنين منتشرون في القرى والأرياف في مناطق الأهوار في العهد السومري ولا ننسى ان الموطن الأصلي للأغنية الشعبية في الريف العراقي وكثرة تواجدهم وانتشارهم في هذه القرى والارياف كذلك وجود محبي هذا الغناء في هذه الأماكن جعل للغناء السومري  هناك صفات مشتركة في المنطقة الجنوبية حيث(بلاد سومر) وهذه عندهم تقترب الى التقديس وتعتبر دليلاً واضحاً على عمق الجذور والأصالة لهذه الأغاني الشعبية. ومما تقدم عند استعراضنا للغناء السومري في العهد القديم وطبيعة مكان هذه المنطقة لا نريد ان نجزم بأن أصالة غنائنا التراثي هو موروث من الغناء وهذه الصفات هي :

1 – مسحة الحزن المشتركة .

2 – المفردة الشعرية التي تغلب عليها صفة التكرار في المقاطع الشعرية . 

3 – عدم تأثيرها بأية الحان اخرى فالالحان السومرية ابداع السومريين الشعبيين في ريف الطرق الجنوبية لم يتأثروا بأية الحان اخرى لقد ولد الابداع في هذه الارض وصيغت الالحان في السهول ومع مسارات الانهار وسكون الاصوات ولو اطلعنا على أطوار الغناء التي وصلت الينا بأصولها الثابتة لا سيما تاريخ نشأتها لذا وجدنا أنها نشأت مع شعر الابوذية هذا الشعر الذي ابدعه رائد على طريقة النعي التي تؤديها النساء في جنوب العراق أو كما روتها المرأة الحزينة أو الثكلى في العهد السومري والتي كانت تسمى (اما –آرا) ومعناه ام البكاء واصبح المغني (كالا) بعد ذلك الصورة الواقعية والرسمية والوريث لهذا الغناء لقد انتبه الشاعر حسين العبادي الى ربط الشعر الذي تقوله النساء على طريقة النعي بالشعر الذي قاله ونجد مقاطع شعر النعي كالاتي :                  

( 1 )

كاع البعيده او صرت بيهه

حوشي طرف وريدها حامي

وكلمن يبايهه وليهه

حرمه وخاف من الحرامي

ولمثل كلبي من يجيهه

وفراكهم حرم منامي

ردت الولي ايسير عليه

افراكهم خلف خفيه

و يتشابجن اديه بديه

وكل هذه المقاطع تنتهي بياء مهملة وهاء مهملة. بيه / عليه / خفيه / منيه /..الخ . وبدا يكتب العبادي شعره الشعبي على هذه الصياغة ثلاثة اشطر متفقة القافية بجناس مختلف المعنى، والشطر الرابع ينتهي بياء مشددة وهاء مهملة وان أول بيت قاله حسين العبادي هو :

برخه يلتمعط ابروحي وتلهه /

 وعكبك بيش تتسله وتلهه / نجد سلوى نلهوبها

حمه آتونهه ابشوكك وتلهه / تنورها اصبح حاميا والحطب غضه او نيرانه باتت سريه / هو ابغضه ونيرانه باتت سريه /مستمره على قوتها 

وهذا الشعر هو من البحر والوافر، ويغلب عليه مسحة الحزن ولكن لا يخلو من الغزل الجميل ويبتعد عن الحالات السوداوية الحزينة لقول العبادي عندما كان جالسا في بستانه ومررن اربع فتيات جميلات يمشين الغنج نادي عليهن واقتربن منه نظر اليهن طويلا وقال :-

سمر لو بيض يعجبني شكلجن

تموجن ما تكللي شكلجن

لون واحد على حالي شكلجن

طريح ابشوكجن وسلال بيه

عند ذلك انبرت احداهن قائلة :-

شتبي منه يلعبادي شكلنه

ورد جوري بوسط جنه شكلنه

لون واحد على حالك شكلنه

عصرنه الزلف وعطيناك ميه

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان