حسين الهلالي
الجزء الثاني
لقد ابدع المغنون الشعبيون بصياغة هذا الشعر وحولوه الى الحان جميلة ضمن طرق وأساليب اصبحت فيما بعد مدارس للغناء في ذي قار بعد ان كان الغناء مقتصرا على البسته وعلى أساليب هي بجملتها حزينة، خرجت هذه الاطوار من مدرسة ذي قار والتي اقترنت بشعر حسين العبادي كما قلنا وهذه الاطوار – طور المجراوي نسبة الى المجره، وطور الشطراوي نسبة الى مدينة الشطرة، وطور شرقي ناصرية نسبة الى مدينة الناصرية. وطور الشطراوي والذي أول من غناه المطرب خضير حسن ناصرية، وطور نعيمه نسبة الى المغني نعيمة جاسم، وكانت الاساليب تتباين من مغنى الى مغنى ثاني في التخريجات وفي الصوت ولكنها لا تخرج عن الطور الام في قواعده الثابتة . واتسعت هذه الاطوار وشملت الرقعة الجغرافية في العراق ثم امتدت الى دول الخليج العربي وكل هذه الالحان تغلب عليها صفة الحزن . وهذه الصفة موروثة من القدم . وهناك عوامل اخرى تقترب وتشترك مع الالحان الحزينة هي :
1 – الحروب والغزوات والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات وغيرها التي مرت على العراق القديم.
2 – الغزو المغولي والاحتلال العثماني والإنكليزي للعراق .
3 – العهود الاقطاعية التي مورس فيها الاضطهاد ضد الفلاحين في هذه المناطق .
4 – الحرمان المستديم للرجل والمرأة معا ، وخاصة اذا تحابا ويحل الفراق بينهما لعدم رضا عوائل الطرفين ثم الهجرة من منطقة الى منطقة أخرى وخير شاهد شعر المرأة من وزن الدرامي .
الكلب دم اوسال سومر بالولام
لا جنه بالتوديع طك طكة الجان
ان الفقر الذي لازم هذه التجمعات البشرية التي تسكن هذه المناطق ولد لديها خيبة أمل كبيرة بعدم تحسن وضعها المعاشي وتحسين حالها الاجتماعي، فخرج غناؤها على شكل (بحة) مكبوتة تعلوها هالة من الحزن، وهذه الحالة هي عدم رضا مبطن وأحيانا رفض واحتجاج مباشر لواقعها وللضغوط التي مورست عليها كما جاءت (اللا) في (الطور الشطراوي) وهي رفض لكل الاستلابات والمنع الذي مورست عليها، على غنائها في موطن سكنها في القرى والارياف فهاجرت هذه التجمعات الى مناطق اخرى أكثر أمنا وأكثر حرية لممارسة فنها الغنائي الذي تجد فيه المتنفس الوحيد لما تقدم وقد عبر شاعرهم هاشم فليح عن رفضهم هذا حين قال :
زماني حطلي عله يعله / يا علة ما اعظمها واكبرها
ينزل الفوك والواطي يعله / يضعه مكانه ويعلي شانه
اود هسه العمر يكضي يعله / ريت العمر ينكضي / ويعله كلمة دعاء في اللهبة العامية
ولا عيش المذله ايطيب ليه / ولا ارغب في العيش الذليل
ان هذه الاطوار التي خرجت من هذه المدارس التي نشأت في ذي قار هي استجابة لحالة تكونت من عدة عوامل وتبلورت وأصبحت حالة ابداعية فريدة تصل في ذروتها الى لحن دام احتجاجي واخر لحن احتجاج مسالم يصل الى حد الصوفية كما هو غناء محبوب .
ان سمة الحزن في تراثنا الغنائي في الجنوب هي مقبولة جدا لدى الجمهور والغناء الذي لا توجد فيه هذه المسحة يطلقون عليه ( غناء ما صخ أو غناء بلا ملح ) فالحزن بالغناء هنا كملح الطعام في الوجبة المقدمة وهي حالة من الحالات المجتمع النفسية . ان نماذج مبدعي الغناء الشعبي في جنوب العراق هم المعبرون عن حالة المجتمع الذي عاشوا فيه الوجه الاعلامي له في تلك الفترة المضاعة وقبل ظهور وسائل الاعلام وهم كأي فرد اكتوى بنار الحرمان والفاقة وفرض عليهم الظلم والاستبداد لذا نراهم يعبرون عن آمال وطموحات الشعب بأغانيهم الشعبية الاصلية النابعة من وجدان هذا الشعب. أما في وطننا، في الخليج العربي فهناك امتدادات تاريخية عريقة ترجع الى ظهور السومريين وامتداد حضارتهم في هذه البقعة الواحدة والتي تعتبر امتداد طبيعي الى الجنوب. وقد أكد جميع المختصون بالدراسات المسمارية ان ملوك العراق القديم الذين سبقوا في الحكم امراء سلالة لكش الثانية قد أشاروا في كتاباتهم عن علاقاتهم التجارية مع منطقة الخليج العربي وغيرها من المناطق الاخرى وتأكد المعلومات التي حصل عليها الباحثون من التنقيبات بأن الدول التي كانت في القسم الجنوبي من بلاد وادي الرافدين قد استوردت %90 من المواد الضرورية لبناء الحضارة من مدن الخليج العربي . لقد بدأت التجارة مع الخليج العربي بظهور السفن الشراعية في بداية الالف الرابع قبل الميلاد بدأ التجارة مع مدن الخليج واستيراد المواد منها بأمر من ملوك الدويلات السومرية الاولى ومنهم الامير كوديا احد امراء السلالة الثانية حيث ظهر بحدود ( 2144 2124- ق.م) حيث استورد من (ميلوخا) خشب الصاج وموقع هذه المدينة القسم الجنوبي من عمان وكذلك المرمر والاحجار الكريمة ومعدن النحاس والزنك ومعدن الذهب، واستورد من مدينة (كوين) شجر البلوط وتقع هذه المدينة في المنطقة الساحلية التي يقع فيها الجبل الأخضر واستورد من (مكان) حجر الديوريت (ومكان) هي المكان الحالي لمدينة عمان الحالية. أما مدينة (دلمون) فهي تتمثل بجزيرة البحرين والامارات العربية المتحدة وقد استورد الأمير كوديا من هذه المدينة أنواعاً مختلفة من الاخشاب وبالاخص أشجار البلوط .
وفي هذا الزخم الكبير من التجارة التي يقوم بها السومريون والسفن الكثيرة الغادية والرائحة التي تمخر عباب مياه الخليج العربي، وكان من المؤكد ان يرافق هذه السفن مغنوا (الزاميرو) السومريون يقتلون السام بغنائهم في هذا السفر الطويل هذا الغناء الذي كان سائداً في بلاد سومر ويؤثرن ويتأثرون بالاصوات الساكنة بهذه المدن والاصوات التي تتعالى من البحر. ومهما يكن هذا التأثير فهو وحدة متكاملة ذات ميزات مشتركة وخاصة جانب الحزن والآنات الطويلة والآهات والتوجع ومن هذا نستطيع ان نؤكد هذه الصلة التي استمرت الى يومنا هذا ما دامت أرض الرافدين والخليج. ان أبرز الالوان الغنائية الايقاعية التي ازدهرت في الامارات العربية المتحدة هي الاغاني الجماعية في الامارات العربية ترافقها دبكات منظمة تقدم ضمن احتفالات الاعياد والطقوس الشعبية بمصاحبة رقصة حيوية، وهذه تذكرنا بجزء من ترنيمة مطولة عن زواج سومري مقدس هو زواج أدن – دكان . قال الشاعر السومري :-
((على دقات طبل صوته أعلى من الرعد وعلى أنغام عذبه من الكار(algaar) زينة القصر، وقيثارة تنفس الروح، أيها المغنون دعونا نغني اغنية تبهج القلب) وسوف نورد هذه الترنيمة الاحتفالية في القسم الثاني من مقالنا هذا، ان هذه الاحتفالات لغير المقيدة يبرز فيها المبدعون ويخلدون كبناة تراث هذه الامة، أما في دولة ماري في العهد السومري في سوريا فبرزت المغنية اورتنا وهي أشهر مغنية وتؤدي الرقصات اثناء الغناء. الدانات اغاني الدبكات وهي منتشرة في اليمن والجزيرة العربية اضافة الى انتشارها في الامارات العربية المتحدة وهي ترجع الى أسفار الغوص والحان المسامرات أما رقصة (العيالة) تعتبر الرقصة القومية لدولة الامارات العربية المتحدة نظراً لشيوعها ومشاركة الجمهور من الذكور بكافة طبقاتهم في هذه الرقصة وهناك رقصة اللبوة والطنبور .








