ثقافة شعبية

كم حنيّن عيب يشيل انجب يمفوض

فاخر الداغري 

 

 “كم تعني كمب بمعنى المكان” 

 هذه الاهزوجة الشعبية والهوسة الجنوبية هي الرد المباشر العنيف الذي قاله اصحاب صرائف الشاكرية الواقعة – حين ذاك- في اطراف كرادة مريم

 والعائدة ملكيتها الى التاجر المعروف محمد الدامرجي والحاج عباس الخضير، والتي كانت سابقاً (كمباً) أي معسكراً للجيش الانكليزي الذي احتل بغداد اثناء حركة رشيد عالي الكيلاني العام 1941 والذي اطاح بها الانكليز.

 وحين اخلي هذا المعسكر من الجيش الانكليزي حل محله اصحاب الصرائف لقاء ايجارات زهيدة (للارض فقط) وقد سموه (كمب حنيّن) في ايماءة منهم للاعتزاز بالمكان .

 في العام 1948 حاولت متصرفية بغداد في عهد متصرفها (حميد صرصر) اخلاء هذا المكان من ساكنيه ، ولكن بالطريقة الغاشمة فأرسلت قوةً من الشرطة السيارة لقلع الصرائف وطرد ساكنيها بالقوة لكنها جوبهت برفض شديد ، وتحد ظاهر وصاخب من قبل سكان هذه الصرائف ، وجاء الرد الشعبي من قبل مهوالهم عارماً مترجماً في جملة واحدة . 

((كم حنيّن عيب يشيل انجب يمفوض)) 

أي ان سكان الصرائف لا يخلون من هذا المكان يا مفوض الشرطة

وعليه : 

 ظلت الشاكرية في مكانها وكثر ساكنوها الى قيام ثورة 14 تموز 1958 حيث ازالها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بمعالجة موضوعية ميدانية وصارت مدينة الثورة (مدينة الصدر حالياً) هي البديل الوطني المشروع لصرائف الشاكرية .

 لقد ذكر الاستاذ عبد الكريم الازري في مذكراته في كتابه (تاريخ وذكريات) في آواخر العام 1954 طلب منه نوري السعيد ان يرافقه الى (منطقة العاصمة) خلف السدة ليطلع على اوضاع المهاجرين القادمين من جنوب العراق ميدانياً ، لكنه اصطحب معه عبد الجبار فهمي متصرف لواء بغداد في حينه بدلاً من الاستاذ الازري .

 وبعد المشاهدة المكانية طلب نوري السعيد حضور الازري في مكتبه فأبلغه سكرتير مجلس النواب انور النقشلي بذلك فوجده متأثراً مما رأى وشاهد بأم عينيه من مستوى العيش المتدني فقام بإجراءات عاجلة مثل شق بعض الطرق وايصال الطاقة الكهربائية ومد انابيب مياه الشرب ونصب حنفيات عامة في اماكن معينة ريثما تعالج هذه المشكلة نهائياً وكرادع للهجرة الى بغداد اقترح الازري على نوري السعيد ان تعالج هذه المشكلة من اساسها بتوزيع اراض زراعية على الفلاحين في لواء العمارة ومنح الموجودين منهم في بغداد قطع سكنية مجاناً ومساعدتهم ببعض المبالغ النقدية او تقديم مواد بناء مجاناً او بناء دور لهم على حساب الدولة .

 ورغبة من نوري السعيد في التفاوض مع بريطانيا حول حقوق العراق من عائدات النفط اصطحب معه السفير البريطاني ووقفا على السدة الشرقية واطلعا على مظاهر البؤس التي يعانيها سكان الصرائف ، وقد خاطب الباشا السفير البريطاني في بغداد في حينه قائلاً : (العراق دولة نفطية كبيرة وعدد كبير من سكانه هكذا يعيشون بسبب قلة موارده من ثرواته النفطية) .

 ويبدو من تصرف نوري السعيد هذا تصرف المتوسل الذي لا يملك رداً وطنياً على الشركات الانكليزية المستثمرة للنفط الا صيغة التوسل والرجاء في وقت شرعت فيه قوانين عدة في عهود الاحتلال والانتداب والاستقلال لتحديد ملكية الاراضي وتنظيم الحياة الزراعية وكان اهمها :

قانون تسوية الاراضي لعام 1931 وقانون اللزمة لعام 1932 ، وقانون حقوق وواجبات الزراع لعام 1937 ، وكانت جميعها تصب في معين السياسة البريطانية في العراق وتشجع الاقطاع والملكيات الكبيرة التي وزعت على الشيوخ الذين تعاونوا مع السلطة المحتلة ، بحيث وصلت ملكية قسم من الاقطاعيين المتنفذين في المدن الى اكثر من نصف مليون مشارة .

 وفي العام 1957 ارادت الحكومة ازالت هذه الصرائف الظاهرة الموغلة في تخلف الدولة العراقية آنذاك فكلفت وزارة الاعمار التي قامت هي الاخرى بتكليف الدكتور عبد الجليل الطاهر الاستاذ في الاجتماع والمفصول سياسياً بأجر يومي قدره خمسة دنانير بانجاز مهمة احصاء اصحاب الصرائف ، فقام بتأليف لجان من معلمي الابتدائية في تربية الرصافة كان منهم الاستاذ بكر مصطفى سالم معلم الشماسية في حينه .

 وكانت قائمة الاحصاء ذات مضامين متعددة منها سؤال هل يرغب صاحب الصريفة بالعودة الى العمارة فيما لو توفرت له وسائل عيش افضل ، فكان الجواب الرفض القاطع ما دام هناك شيوخ وملاك وسراكيل ، وان الحياة في بغداد افضل رغم رداءة العيش في مستنقعات نهر شطيط ما دامت الكرامة موفورة والعيش في امن بعيداً عن الاضطهاد الاقطاعي الذي وصل لدى بعض الاقطاعيين الى الاعتداء على الاعراض والتفسخ الاخلاقي وتجاوز القيم الانسانية التي تحفظ كرامة الانسان .

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان