سمير الشحات
يواجه مسلسل “جيمستاون”، الذي يعرض هذه الأيام على شبكة سكاي البريطانية التي تحظى بمتابعة واسعة النطاق، انتقادات من قبل نقاد يقولون إن الكثير من أحداث المسلسل لا تتوافق مع الواقع آنذاك.
ومثله في ذلك مثل الكثير من أفلام السينما التي كانت تحمل أهدافا تتخطى الحقائق التاريخية، يهدف من خلالها صناع المسلسل إلى ترسيخ مبادئ هذا العصر، عبر مشاهد من عصور سابقة.
وفي فيلم “ماغنيفيسنت سفن”، من إنتاج عام 2016 بطولة دانزل واشنطن الذي يقوم بدور ضابط يتعقب مرتكبي الجرائم في ولايات أميركية عدة، يقود واشنطن الأسود مجموعة من الرجال البيض كي يواجهوا معا رجل أعمال مستبدا من أجل استعادة حقوق أهالي قرية يستغلها رجل الأعمال من أجل التنقيب على الذهب.
ولم يكن السود يحظون بهذه المكانة في القرن الثامن عشر. كما لم يحظ السود بمكانة اجتماعية مرموقة في ذات العصر، الذي تناوله فيلم “12 ييرز أسليف”، الذي تم إنتاجه عام 2013 وحصل على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم.
ولم يكن الإمبراطور كومودوس عاجزًا أو ضعيفًا كما قدمه فيلم “غلادييتور” (المصارع)، الذي عرض عام 2000 وقام ببطولته راسل كرو، كما أنه لم يمت مقتولًا في حلبة المصارعة بل اغتيل على يد أحد المصارعين داخل قصره.
ولم تكن بوكاهونتاس الحقيقية إلا طفلة في التاسعة من العمر أنقذها جندي بريطاني، ولم تكن هناك قصة حب بينهما، كما صورها فيلم الرسوم المتحركة “بوكاهونتاس” الذي قدمته شركة والت ديزني عام 1995 ويحكي قصة حب بين أحد المستعمرين الإنكليز (ميل فيبسون) وفتاة هندية.
وتعج الدراما والسينما في العالم العربي بمغالطات تاريخية، بعضها يرجع إلى تجاهل الحقائق الثابتة، لكن في أغلبها يعكس غيابا للوعي في طريقة التفكير المتصلة بالماضي.
ويرى يسري عبدالله، الناقد الأدبي المصري، عن مسلسل “سراي عابدين” الذي عرض على الشاشات العربية في عام 2014 وقامت ببطولته الفنانة يسرا، أن “الدراما فيه تحولت إلى ثرثرات فارغة زيفت تاريخ خديوي مصر إسماعيل، إذ تم تصويره على أنه مجرد مسخ خاضع لمكائد النساء داخل قصر حكمه، بينما الرجل كان صاحب مشروع حضاري حقيقي لتحديث مصر وجعلها جزءًا من أوروبا”.
وفي بعض المسلسلات الدرامية تم تصوير سلوك الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر فوق أي خطأ، وحاولت تبرير الأخطاء التي شهدها عصره.
ومن بينها مسلسل “صديق العمر” الذي تحدث عن علاقة عبدالناصر بقائد جيشه المشير عبدالحكيم عامر.
ويقول نقاد إن المسلسل لم يكن متوخيًا للحقائق التاريخية، وإنه حوى الكثير من المبالغات التي أثارت انتقاد الكثيرين، ومنهم أقارب عامر أنفسهم.
الماضي بعقلية الحاضر
تتبنى بطلات مسلسل “جيمستاون” قيما شائعة في القرن الحادي والعشرين، ومنها الثورة على الاستعباد الذكوري والأبوي، اللذين كانا سائدين قبل نحو 400 عام.
لكن هذه المقاربة تتسبب في الغالب في تشويش الوقائع التاريخية في عقول مشاهدين لم يقرؤوا كثيرا عن هذه الحقبة، وفي إثارة غضب الكثير من المؤرخين الذين يفهمون هذه الحقبة جيدا.
وفي إحدى مشاهد المسلسل تبوح شابة بسرها لصديقة بأن رجلا أجبرها على ممارسة الجنس معه. وتطمئن الصديقة الشابة التي تم الاعتداء عليها بأن مثل تلك الأفعال غير مقبولة في هذا اليوم وهذا العصر.
وتقول الصديقة، في لهجة تشبه خطب ناشطات حقوق المرأة اليوم “سيأتي الوقت الذي يجب فيه علينا أن نقف ونرفض، وذلك الوقت هو الآن”.
واليوم لا يرفض أي شخص عاقل هذا الشعور، لكن الحيرة أصابت مشاهدي جيمستاون أمام حقيقة أن “الوقت” المعني بمثل هذه الأحداث هو عام 1619 في مستعمرة فرجينيا الإنكليزية، في الولايات المتحدة المكتشفة حديثا.
وتتناول الدراما التاريخية “جيمستاون”، المكونة من ثمانية أجزاء، إرسال شابات ليصبحن زوجات لبناة العالم الجديد في أميركا، حيث يقابلن أزواجهن لأول مرة على رصيف الميناء.
لكن إذا كانت زوجات القرن السابع عشر الحقيقيات مشاكسات ومتمردات مثل الشخصيات الأساسيات في هذا المسلسل: جوسلين وألايس وفاريتي، اللاتي أحيانا ما يصفعن وجوه الرجال ويلقين بالنكات على إخفاقاتهم الجنسية، وفضلا عن ذلك يناضلن من أجل أحكام قضائية أشد على مقترفي الجرائم الجنسية، كدعوتهن إلى “شنق رجل من أجل اغتصاب امرأة”، كما يشجعن على المزيد من الثقافة العاطفية لدى الذكور.
هل كان الوضع حقا على هذا النحو قبل 400 سنة؟
يقول مارك لاوسون، محلل الدراما في صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن “هذا البناء الفكري يذكرنا بأسطورة فيلم تدور أحداثه في عام 1914 وتقول فيه إحدى الشخصيات “لقد اندلعت الحرب العالمية الأولى على التوّ”.
وأضاف “علينا أن نذكر كتّاب القصص الخيالية التي تدور أحداثها في الماضي بأن الناس الذين يعيشون حينئذ لا يدركون ماذا سيحدث في ما بعد. لم يكن الجنود في منطقة نهر السوم (في فرنسا) يعرفون بأنه ستقع حرب عالمية ثانية، أو أن النساء المجبرات على العمل في مزارع التبغ من المفترض أنهن إما لم يدركن بأنه بإمكانهن الثورة على الرجال، وإما أنهن كنّ خائفات من عواقب الثورة”.
ويقر سيناريو مسلسل جيمستاون، الذي كتبه بيل غالغر (الذي كتب أيضا أدوارا تاريخية للنساء في مسلسل ‘لارك رايز” و’كندلفورد’)، بمخاطر الوضع في مشهد الاغتصاب الذي يعرض في الحلقة الأولى، تتبعه صورة لحبل المشنقة الذي يتدلى أمام الجميع.
ويقول نقاد إن مشكلة شخصيات غالغر هي أن آراءههن ومواقفهن تعبق كثيرا بنسوية القرن الواحد والعشرين، إذ تصل درجة تحرر جوسلاين (نعومي باتريك) وألايس (صوفي راندل) وفاريتي (نيامه والش) إلى حد تكوين فرقة لإنتاج أغان عن قوة ا لفتيات.
جيمستاون، هي سلسلة من إنتاج شركة “كارنيفال”، وهي نفس الشركة التي أنتجت “داونتاون أبّي”، وهو المسلسل الذي صدم الكثير من طلبة التاريخ الإنكليزي بتقديمه لأحد النبلاء الإنكليز من بدايات القرن العشرين يحمل أفكارا ليبرالية متقدمة، إذ يشعر بألم شديد بسبب ظروف العمل والحياة الشخصية لخَدمه.
وتشيع كثيرا الرغبة في صياغة الماضي بشكل يتلاءم مع الحاضر في الدراما الغربية السائدة. وفي مسلسل “كول ذي ميدوايف” الذي يعرض على قناة “بي.بي.سي1” يتنبه الطاقم الطبي بشكل سابق لأوانه في ستينيات القرن الماضي، إلى فضيحة ختان الإناث.
وفي مسلسل “غرانتشستر” المعروض على قناة “آي.تي.في”، يضم التسلسل الهرمي الكنسي في ريف كامبريدجشير في الريف الإنكليزي في خمسينات القرن العشرين رئيس الشمامسة غابريال أتوبو (غاري بيدل) الذي عُيّن قبل أكثر من ثلاثة عقود من أن يصبح ويلفراد وود أول رجل دين أسود حقيقي يصل إلى رتبة تحت الأسقف في كنيسة إنكلترا.
وفي سلسلة “ذي دورالس” الذي تدور أحداثها في جزيرة كورفو في ثلاثينيات القرن العشرين، يتعرض رجال محليون يتحرشون بالنساء إلى انتقادات لاذعة وسريعة من قبل امرأة عابرة.
ويقول لاوسون “يمكن أن يبدو ذلك وكأن التاريخ تمت قرصنته عن طريق تغريدة تويتر من عصرنا الحاضر”.
وأضاف “التفسير لتمكين الناس من حقوقهم بأثر رجعي هو كون المقصود من القصص ليس تقديم دروس في التاريخ بقدر ما هو إعطاء دروس في الحياة، وخاصة بالنسبة إلى المشاهدين سريعي التأثر”.
وفي مسلسل “جيمستاون” تعمد الكاتب ترسيخ شبه كبير بين نساء القرن السابع عشر المنقولات إلى العالم الجديد على ظهر السفن، بعرائس الجهاديين اللاتي يسفّرن بالطائرات إلى افراد عصابات تنظيم داعش في سوريا والعراق هذه الأيام.
سقطات الدراما الشرقية
وتجبر “الضرورة الدرامية” صانع الدراما أحيانًا على بعض التدخلات التي تجعلها تتواءم مع طبيعة العمل المقدم، لكن نقاد يقولون إن ذلك ليس مبررًا لإفساد حقائق التاريخ، أو تضليل المشاهدين وتوجيههم نحو أهداف تحقق مصالح سياسية أو أيديولوجية لصالح صناع الدراما.
ويقول نقاد إن الدراما “ليست درسًا أكاديميًا في التاريخ، إذ يتبع الفن سياقًا مختلفًا عن الدراسات العلمية التي تحكمها قواعد ثابتة”.
وأحد أكثر الفنون التي تعرضت لانتقادات الدراما والأفلام الدينية، إذ يقول كثيرون إنها ترسيخ للتعلق بالزمن الماضي في وجدان المشاهدين وتعرقل تحديثا فكريا ملحا، وترسخ ثقافة السرد والحكي، وتسهم في تقديم مبالغات مذهبية وطائفية تنشر الكراهية عبر عرض نزاعات دينية دموية.
وذاع صيت مسلسلات تركية وهندية ومكسيكية في العالم العربي، بعد انتشار صناعة الدبلجة اللغوية لمسلسلات تتسم بطول حلقاتها.
وتقدم هذه المسلسلات أخطاء تضمر أغراضا أيديولوجية وتجارية خاصة بالدولة منتجة المسلسل، التي تنظر إلى الدراما كأحد أعمدة القوة الناعمة.
ومن بين هذه المسلسلات المسلسلان التركيان “حريم السلطان” و”قيامة أرطغرل”.
وقدم “قيامة أرطغرل” مبالغات حول قيام الإمبراطورية العثمانية على يد أرطغل والد عثمان الأول وابن سليمان شاه، إذ حاز المسلسل على ترحيب واسع من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يتبنى رؤية سياسية وأيديولوجية إسلامية محافظة.